الثلاثاء، 31 مايو 2022

ندف الثلج

 



كان قد انقضى شهر من العام الدراسيّ يوم انتقلتُ إلى مدرسة (الملز) المتوسّطة. قادتني الصدفة لأجلس بجوار (غدير)، علّقتُ حقيبتي على ظهر المقعد الخشبيّ، ووضعتُ عباءتي المطويّة في درج الطاولة.


لعلّها لم تكن صدفة، بل لأن المقعد المجاور لغدير كان شاغرا، فلم يكن لها صديقة قبلي. أو لعلّ كلتانا شعرتْ بالانتماء إلى هذا الركن القصيّ من غرفة الصفّ، متخلّيتان عن المقاعد الأماميّة "لصاحبات الأرض". 


في البداية واجهتُ صعوبة في فهم لهجتها "أختي ربا بندلعّا روبي، وأخي علاء بندلعو بنّاديلو لولي". كانت أطول منّي كثيرا، شعرها حريريّ أشقر، وشعري المموّج يتوهّج بحمرة الحنّاء. لم نكن نشبه بعضنا، ما جمعنا هو اختلافنا عن زميلاتنا النجديّات السمراوات بشعر فاحم، وإن كانت بشرة إحدانا بلون الحنطة والأخرى كبياض الثلج.


تحكي لي غدير عن عائلتها، عن أخيها الأزعر الذي يلعب "الطابة" داخل الشقّة فيكسر "الڤازا والزريعة" لعلّها تقصد بالڤازا صورة مؤطّرة ومعلّقة على الحائط؟ لكن لماذا يوجد زرع في صالتهم! رأيتُ أخاها مرارا، يقف بانتظارها بعيدا مطأطئ الرأس بأذنين حمراوين، يحمل عنها حقيبتها ويذهبان إلى البيت مشيا. "الصبيان زعران" تقول غدير. تذكّرت منام البارحة؛ كنت أقف أمام بحيرة تحفّ بها الأشجار، الوقت عتمة، لكن الرؤية واضحة مثل ليلة مقمرة، لا نسمة هواء تهزّ غصنا، ولا فراشة تطير. أتحرّك بهدوء وسط اللوحة الساكنة، على حواف الأوراق ندف ثلجيّة بأشكال بديعة، ما أن أمسّها حتّى تذوب من فرط رقّتها، وجدتُ أخي فجأة أمامي، قال بصوت كالفحيح: "لا تلمسيه.. هذا كلّه عفن" نفضتُ يدي وانقبضتُ، وتلاشت اللوحة الساحرة كما يتلاشى الضباب.


معلّمة التدبير المنزليّ تصرخ وتحدجنا بغضب، لكنها ترقّ عندما يقع بصرها على غدير، لم تكن غدير متفوّقة في أيّ مادّة، كانت كسولة، ولا تزيّن دفاترها، ومع ذلك تفضّلها علينا، ترفض أن تتذوّق أطباقنا، وتأكل من سلطة الفواكه التي قطّعتها غدير، ربّما تشعر أن أيدينا متّسخة، أمّا يديها فبيضاوين مثل الأيدي التي تظهر في إعلانات طلاء الأظافر على الصفحات اللامعة للمجلّات.


كنّا قد رفعنا سفرة الغداء عندما اتصلتْ هاتفيا، ردّ عليها أخي: "زينب تتغدّى" وأقفل الخطّ، ثمّ رمقني غاضبا: قولي لصديقتك إن والدي لا يسمح بالاتّصال وقت الظهيرة. يصعب عليّ أن أعرف أيّ الأمور تغضب أخي، مرّة سهوتُ في اللعب عن تبديل فوطتي الصحيّة، أشار إلى بقعة دمّ على ملابسي متّهِما: "ما هذا؟" شعرتُ بالمهانة ولم أجب، أمسكني من معصمي وهزّني "تكلّمي! ما هذا؟" لم يفلت يدي إلا حين صاحت أمّي "اعبيييييد.. استح على وجهك".


كان والداي يشربان الشاي، وإخوتي يشاهدون التلفزيون، أنهيتُ مكالمتي مع غدير وانضممتُ إليهم.

  • عيب البنت تتكلّم على التليفون كلّ هذا الوقت.

  • (شعرتُ بالحرج ولم أجب).

  • صديقتك أردنيّة؟" 

  • سوريّة.

  • زلمات! أكيد أبوها يشتغل في المباحث، يكسب رزقه ورزق عياله من تعذيب المساجين.

تخيّلتُ والد غدير أضخم من والدي، ببشرة حمراء كبشرة علاء، يمسك سوطا ويجلد السجناء، ينفجر الدم من الظهور العارية ويرشّ وجهه وملابسه. يعود إلى البيت بملابسه الملوّثة، يحمل بيديه الغليظتين أكياس التسوّق، تتناول غدير درّاقة حمراء من الكيس وتقضمها، يختلط دم السجناء بكرز شفتيها.


أفكّر بعلاء الذي يطعمه أبوه المال الحرام، علاء الأزعر الذي يخبئ وجبة الفسحة ليتقاسمها مع أخته. أفكّر بأخي الذي يكدح والدي في دكّانه ليطعمه اللقمة الحلال، أخي الذي سمّم حديقتي السحريّة وأحرق ندف الثلج.

الأربعاء، 11 مايو 2022

"نكّروا لها عرشها"

 


أنام بعد مغيب الشمس، وأصحو قبل الطلوع. ليس ثمّة عصافير هنا تحتفي بالشروق، لا مطر، لا حرّ ولا برد.

هذا المكان خال من الكائنات الحيّة، لا يوجد فيه سوى هياكل ميتة، تطوف وتتجوّل بلا أرواح. ما أن أقترب من أحدها حتّى يخطف روحي، وأشتبك معه لأخلّصها منه وأستردّها.





الهياكل الساكنة والمتحرّكة تستمدّ الحياة منّي، ألمسها فتضيء لوهلة، أبتعد فتنطفئ، كأن هذا المكان عالة عليّ، كأني المصباح الوحيد في هذا الفضاء الكامد. بعض الهياكل أحبّها فأمنحها أسماء، وأعطيها قبسا من نوري؛ هذه نخلتي، وهذا كلبي، وهذي عصاي.


قبل أن أتعافى ويشتدّ عودي كانت الأمّ تتولى حمايتي من الهياكل الناهبة، كانت رفيقة بي، تكتفي بامتصاص القليل من نوري، يلتصقون بي هي وصغارها مثل القراد، يعبثون بي مثل دمية، ويشربون من دمي.





لا تلاحظ الأمّ أني لستُ صغيرها، عندما ولدتْ أوسط أولادها كنتُ حاضرا، برفقة الحارسَين، أحدهما أخذ رضيعها وأخفاه، والثاني وضعني في المهد مكانه، كانت نائمة وقد أجهدها المخاض.


الأب والأخوة يشعرون بأني من فصيلة أخرى، يقترب أحدهم مني ويسطو على بصري، فأراني في عينيه، كائنا غريبا: مخيفا كالنار، مضيئا كالقمر، حيّا كالماء، محيّرا كمتاهة. شيء فيّ يحفّز عندهم رغبة النهب كأنهم يرون جرّة مليئة بالذهب، شيء ما يوقظ فيهم غريزة الافتراس، كأني طريدة.





أتذكّر، إني أتذكّر؛ في المكان الآخر كان لي صديق، شقيّ وضحوك، وكان مهووسا بالسرقة، يسرق دون حاجة، يسرق بدافع المتعة، لكني لم أتخلّ عنه، أردتُ مساعدته ليتخلّص من هذا العيب، ولم يكن يصغي إليّ. 

عندما اكتشف والده أن السارق هو ابنه وليس أحد الموظفين الذين طردهم ظلما؛ وأدانه بالدليل القاطع، بكى وألصق التهمة بي، قال إني كنت أحرّضه وأبتزّه.


لا صديق لي في هذا المكان، ما حاجتي إلى صديق.


علّمني الأب حرفته، فأنا خزّاف، أصنع الجرار. وعلّمتني الأمّ كيف أحيك السجاجيد. أقطع مسافة طويلة مشيا على قدميّ إلى سفح الجبل لأجلب الطين، وأسافر إلى البدو لأشتري منهم الصوف. لا أتعامل مع التجّار. في المكان الآخر طالما باعني التجّار أسوأ ما لديهم من بضائع، لأني الزبون الذي لا يعيد إليهم بضاعتهم المغشوشة ويستردّ منهم ماله.





في المكان الآخر تزوّجت من أجنبيّة وافدة، كانت تنظّف مكتبي وتعدّ لي الشاي، صامتة وحزينة دائما، باكية أحيانا مع كدمات في وجهها وجسدها.

أفهمتُها أني مستعدّ للزواج منها، والعناية بصغارها إن تخلّصتْ من زوجها. لا أدري لو لم تكن جميلة بذلك القدر هل كنت لأساعدها بدافع الشفقة والرحمة المحضة.

ساعدتُها لتحصل على الجنسيّة وعلى وظيفة أفضل، تدريجيّا تركت على عاتقي كلّ الأعمال المنزليّة، متذرّعة بالتعب والمرض، حتى الاحترام استكثرتْه عليّ، وصغارها الذين طالما حميتهم من نوبات غضبها وقسوتها صاروا يشاركونها في شتمي.


لا أريد زوجة هنا، لا أريد أولادا.




هناك نشأتُ يتيما كفلني عمّي، درّسني اللاهوت والحكمة، ولمّا مات كفلني ابنه الأكبر، وواصل تعليمي الفتوحات المكيّة وفصوص الحكم، وفي أثناء الدرس كان يقبّلني ويلمسني.


أنا هنا لا أدرس اللاهوت، وإنما أسيح في أرض الله وأسرح في ملكوته وأسبّح بحمده.





إنني أتذكّر، لقد كنتُ فتنة الله لعبيده هناك، كنتُ الاختبار الأصعب الذي لم ينجح فيه أحد، لعنني الجميع، ولعنتُهم كلّهم. دعوا عليّ ودعوتُ الله أن يخلّصني منهم.


وها أنا ذا في منفاي وحيدا…

السبت، 17 يوليو 2021

بكائيّة الفنجان المسكوب



كنتُ طفلة هزيلة، أعاني من فقدان الشهيّة، لذلك كانت أمّي صارمة حيال الكلمات التي تقال على المائدة، لم تكن تسمح لإخوتي بالكلام عن قطّة مدهوسة أو حمامة ميّتة تغطّيها الديدان، لأني قطعا سأقوم ولن أكمل طعامي.

كانت شراهة أختي الكبرى تثير اشمئزازي، وبالقدر نفسه تثير إعجابي، بإمكان أختي أن تستلّ شعرة بطول ١٠ سنتيمترات من سندويش الفلافل وتكمل التهامه بشهيّة كبيرة.

كلّما كبرتُ تفاقم هذا الاعتلال في شهيّتي كما يتكاثر العفن. لم تعد المناظر والروائح السيّئة وحدها ما تثير اشمئزازي، حتّى الشاب المهندم ذو الشعر الناعم الممشّط بعناية الذي جاء لخطبتي تسبّب لي بنوبة غثيان.
بقيت عائلتي في حيرة تتساءل: ما عيب هذا الشاب! لم أخبرهم بأن بشرته غريبة وكأنهم نقعوه في حوض الاستحمام طوال الليل قبل أن يأتوا به، بدا لي رماديّا باردا مثل جثّة. 

كان خطيبي يصغر أختي الكبرى بخمس عشرة سنة، وكانت تعامله كأخيها الصغير المدلّل، تطبخ له الأطعمة التي يحبّها، وتصغي إليه بحبّ مثل طفل يلثغ. بإيماءات من رأسها ويديها تحثّه على مواصلة الكلام وتشجّعه بالضحك، كانت توشك على التهامه مثل سندويش فلافل. سماجته المقرفة كانت عندها مجرّد جثث عفنة طافية، تبعدها مثلّما تهشّ ذبابة عن طعامها أو تستلّ شعرة من لقمة بفمها.

قديما شبّهوا اللئام بالجيَف التي ترتفع على سطح الماء. وشبّهوا الشرفاء بالدرر التي ترسب في القاع، لكن ليس صحيحا أن الناس صنفين: درر وجِيَف، الصحيح أن كلّ إنسان بحر، تسبح فيه الدرر والجيف مثل حساء مقزّز.
كلّ إنسان كوب قهوة، تطفو على سطحه جثث عفنة، وبإمكان أختي أن تخوض الفنجان بإصبعيها لتخرج الجثّث ثم تشرب قهوتها، بإمكانها أن تحبّ خطيبي بعينيه الجبانتين، وبشرته الرماديّة، ويديه الباردتين المبلّلتين دائما بالعرق. 

 وأنت… أطيب فنجان قهوة، برغم الرغوة الكثيفة التي تثير غثياني. أنا التي أعاني من اعتلال مزمن في الشهيّة لماذا علي أن أتجرّع تفاهاتك الدسمة (كرمال) قهوتكلماذا عليّ أن أشتبك في صراع يومي مع قسوتك ولا مبالاتك؟ قل لي بربّك لماذا أسوأ ما فيك يطفو على السطح؟ 

الجمعة، 2 أبريل 2021

التفكير بطريقة شاهنشاه

 


الجنّ لا يفرّقون بين الجدّ والهزل، هكذا تقول الحكاية.

فالزوج الذي نادى: "يا إبريق خذها!" لم يكن جادّا، كان يريد أن يخيف زوجته الجبانة التي قطعتْ نومه لأنها تخاف أن تنزل وحدها من السطح في منتصف الليل لتذهب إلى الحمّام. لكنها أبطأتْ كثيرا في الخروج، ولمّا فتح باب الحمّام لم يجدها.
أمّي لم تقبل اعتراضي حين قاطعتُها وقلتُ: لماذا ينفّذ الجنّي إبريق كلام الزوج دون تفكير؟ وتخلّصتْ من سؤالي بإجابتها المعتادة: "القصص لا تُعارض". ثمّ واصلتْ سردَ الأحداث العجيبة، ومغامرات الزوج لاستعادة زوجته من عالم الجنّ.

قبل ذلك لم أكن اعترض على مثل هذه التلفيقات، عندما سافرنا إلى إيران للمرّة الأولى قال لي أخي الذي لا يتوقّف عن إخباري بالأكاذيب والخيالات: "عندما تكونين في إيران فإيّاك أن تقولي كلمة (شاي)، لأن اسم ملكهم (شاينشاي)، وإذا قلتِ اسم ملكهم يذبحونك" ومرّر جانب يده على رقبتي كنصل سكّين. لم أسأله لماذا يذبحوني وأنا لم أشتم ملكهم؟

لكن الجنّ والإيرانيّين ليسوا الوحيدين الذين لا يعنيهم إن كنتَ قاصدا وجادّا أم لا. سحرة علوم الطاقة اليوم يقولون بأن اللاوعي لا يفرّق بين ما تريد الحصول عليه وبين ما ترفضه، فأيّا كان الشيء الذي يتردّد على لسانك وتوجّه تركيزَك إليه سينجذب إلى واقعك. وكبيرهم فاديم زيلاند يقول إن (البندولات) لا تعرف هل أنت من أنصارها أم من أعدائها، فهي ستجرفك في دوّامتها على كلّ حال إن وجدتْك تحوم حولها.  

ستقول لي إن كلّ هذا هراء، أنت تنكر أن هؤلاء ليسوا الوحيدين كذلك. عندما كتبتُ تعليقا هنا في فيسبوك بأن المرأة المتبرّجة كانت على حقّ وأن الحوزويّ أخطأ، لم أقصد بأن التبرّج حقّ وصواب، وكان بإمكانك أن تناقشني هنا على صفحتي، لكنك صدمتَني بنسخ كلامي وطرحه للنقاش في قروبنا على واتساب، هل قلتُ للنقاش؟ أقصد للمحاكمة.
أنت لست ساذجا، ولم يكن تصرّفك عفويّا، استدرجتَني إلى الفخّ وأنت تعرف بأني لن أهرب من المواجهة ولن أوارب، أردتَ أن تنازلني في أرضك وبين مشجّعيك الذين تدرك جيّدا أنهم يفكّرون بطريقة إبريق وشاينشاي، فهم لم يفهموا من الموضوع كلّه إلا كلمة حوزويّ، إذن فقد ذكرتُ آلهتهم بسوء، وطبعا لا حاجة ليتبيّنوا فأنت الثقة.

أسلمتَني إليهم ووقفتَ تتفرّج وهم يرشقوني بالحجارة، جعلتَ منّي هدفا يصوّبون إليه سهام ارتيابهم وقهرهم وخذلانهم، جعلتَ منّي تجسيدا ليزيد الذي قتل الحسين، للطغاة الذين اضطهدوا أسلافهم على مرّ التاريخ، لبناتهم اللاتي لم يحسنوا تربيتهن، لأولادهم الذين خرجوا عن تقاليدهم، سلّمتَ إليهم (الشيطان الصغير) الذي يجب أن يكسروا قرنيه ويقصّوا مخالبه قبل أن يكبر ويتوحّش.


الأحد، 14 مارس 2021

أشرُقُ بالذكرى




بحفاوةٍ أستقبِلُ الفجرَ، أفتحُ له النوافذَ وأزيحُ الستائرَ وأطفيءُ المصابيح. نورُ ما قبلَ الشروقِ بهجةٌ صِرفة، لا ينبغي أن تخالطها مؤثّراتٌ أخرى. يتردّد في خلدي بيتُ شعرٍ قرأتُه البارحة في تويتر: "أسَفي على البيتِ الذي ناديتُه من فرطِ وحشاتِ الملاجئِ منزلي". يقولون أن الميّت إذا ضغطه القبر يسيلُ حليبُ أمّه من منخريه. هذا يعني أن ما يدخلنا لا يخرج، وإنْ خيّل إلينا أننا ننسى ونتجاوز ونتعافى. تمتمتُ: "أسفي على البيت الذي..." وشرقتُ بِريقي. انبجسَ الماءُ الغائرُ في شقوقِ الذاكرة، وطما فسدّ عليّ منافذ النفَس. عدتُ طفلةً أمسكُ بيدِ أختي في عين (الخَدود)، الأطفالُ الصاخبون يقفزون في الماء، النساءُ على الضفافِ يدعكن أجسامَهن بالسدرِ والصابون. 
طفلةً في الرابعةِ شديدة التعلّقِ بأختِها الكبرى التي خطفَها ابنُ العمّ، ذهبَ بها إلى بيتِه البعيدِ لتسكنَ وحيدة. طفلةً قليلةَ الكلام، لا تعرفُ الطريقَ إلى بيتِ أختِها على بُعد حارتين، لا تبكي، لا تسألُ، لا تشكو؛ لكن الشوقَ يحيّرُ لبّها. في المنامِ رأيتُ أختي عادت إلينا، وأنا ألاحقها حيثما ذهبتْ وأطوفُ حولَها، لكنها تصدّني وتعبس، ثمّ صاحت في وجهي ودفعتْني بعيدا. أفزعني الحلمُ وذهبتُ أبحثُ عن أمّي فوجدتُها في المطبخ، إخوتي السبعة نائمون، وهي مشغولةٌ بإعدادِ العصيدةِ للإفطار، قصصتُ عليها الحلمَ باكيةً، لم تنظرْ إليّ، قالت وهي تصبُّ الماءَ المغليَّ على السكّرِ المعقود: "تفسيرُ حلمك أن أختَك مشتاقةٌ إليك"، طشّ الماءُ في القدرِ الساخنِ وارتفعتْ غيمةٌ بخارٍ كثيف، وأكملتْ: "الأحلامُ تفسّر بعكسِها".
صدقَ حلمي وجاءت أختي لزيارتنا، تعلّقتُ بها لتأخذني معها، كانت ذاهبة لتستحمّ في العين، وسمحتْ لي أمّي بمرافقتها.
أنظرُ بوجلٍ إلى الماءِ العميقِ المخضرِّ بتأثيرِ الطحالب -الطحالب الكريهة التي ستلازم كوابيسي- وأفكّرُ بالحراسين التي أخبرني أخي أنها تعضُّ الأصابعَ وتأكلُ الجروح. ألوذُ بالحافّة وأحدّقُ في السورِ الصخريّ شديدِ الانحدار يحيطُ بنا مثل مصيدةٍ محكمة. دعكتْ أختي شعري بشامبو له رائحةُ النُقْلِ المُرّة، وبحركةٍ سريعةٍ خرقاء دفعتْ رأسي براحةِ يدِها وغمرتْني في الماء، دخل الماء إلى حلقي ومنخريّ مشبعا برائحةِ الطحالب والمذاقِ المُرّ للشامبو، أخرجتُ رأسي وأنا أشرُقُ وأكحُّ وأفرُكُ جفوني المحترقة، غضبتُ من أختي التي أرادتْ أن تغرقَني، لم أعدْ أشتاقُ إليها وأنتظرُها،...  الأحلامُ تفسّر بعكسها. 

الخميس، 29 أكتوبر 2020

أربّي الكلمات






وقعتُ في حبّ كلمة، في حضورها أشعر أن الطقس يتغيّر، الضجيج المحيط بي يخفت، توقظ فيّ مشاعر عميقة، حنينا إلى شيء لا أتذكره، إذا لم يكن ذلك حبّا فما عساه يكون؟ 




أربّي الكلمات كما يربّون الحمام والقطط، كأمّ أربّيها وأحبّ أشرسها كما أحبّ ألطفها. أعرف طباعها وملمسها ورائحتها، بعضها كالأفاعي سامّة لكن فاتنة، بعضها كزغب أجنحة الملائكة، بعضها تمتصّ روحك وبعضها ترويك. 

بعض الكلمات تتعلّق بها سريعا، وبعضها تتجرّعها ثمّ تدمنها، وبعضها تتعبك لكن ترفض التخلّي عنها.




الكلمات لا تعيش في المعاجم، المعاجم ألبوم صورها.
الكلمات أزهار، تميل بأعناقها فتذكّرنا بالطفولة. فراشات ترفرف فتفرش القلوب بساط بهجتها، وتشيّع العيون حسنها.




الكلمات عصافير لها زقزقة توقظ فينا ذكرى لغة منسيّة.




الكلمات أفراس أصيلة لها سلالات وشجرة عائلة. أحجار كريمة تبطن الأسرار. كائنات لها أرواح، تنفر من القسوة والاستغلال، وتشعر بالرفق والأنس، تحبّ من يلاعبها ويدعك فراءها. 

للكلمة اسم وسحنة ونبرة، ولها خفّة أو ثقل، طريقة في المشي والتهادي والخطف، بعضها بأشواك ومخالب، وبعضها ببتلات وبراعم.



بيدك أن تجلد الكلمات فتطيعك مثل حيوانات السيرك، تعدو كخيول السباق، ستبهرك طاقتها الكامنة، لكنك ستخسر روحها، تصبح كعارضات الأزياء، كالمانيكان، جمال قياسيّ مفرّغ من الإحساس.

بعض الكلمات نخرجها للاستعمال اليوميّ مثل حروف الجرّ والعطف.. وبعضها نخفيه كوصمة عار، مثل الشتائم. وبعضها نبجّله كالقَسم، بعضها نغار عليه ولا نبديه إلا لمن نحبّ.




بعض الكلمات نصادقه ونشاكسه بالمجاز، بعضها نتجنّبه لنثبت بأننا كبرنا، بعضها نتملّقه لنلتقط الصور بجانبه، بعضها نتعلّمه لننفثه كالسحرة في وجوه أعدائنا، أو نرقي به المرضى كالأطباء، أو نتدرّع به ونحصّن أملاكنا. 

الكلمات لها قدرة على جرح قلوبنا، كيّها، عصرها، خطفها، سحقها، إغراقها، ملئها بالنعيم والبشرى.




نحن نشرب رحيق الكلمات، فتستوطننا، تشكّل تضاريس وعينا، مناخ أمزجتنا، تعلّمنا طقوسها، تفرز علاقاتنا وتعيد تنظيمها، تلقي علينا شبها منها.




تلك الكلمة التي أحبّ فيها شبه من العجم، بحثتُ في شجرة عائلتها ولم أعرف من أيّ سلالة تنحدر، تفرّستُ في مشيها، إيماءاتها، فلم أزدد فيها إلا تحيّرا. سألتُ عنها المعاجم والمصادر فأنبؤني بمعناها، لكنها كلّما تلفّتتْ تبدّل وجهها، لو كان لمملكة الكلمات حاكمة متوّجة لكانت السلطانة بلا منازع.




فسبحان من أبدع وصوّر، سبحان من نضّد أحرفها، وموسق جرسها، سبحانه!

الأربعاء، 21 أكتوبر 2020

حيث فقدتْ روحَها




نحن أجرام فلكيّة، تتحرّك حاملة مداراتها وأقمارها، أحيانا تشتبك مداراتنا فتقع بيننا حوادث التصادم، وأحيانا تتقاطع بانتظام فتعبر أقمارنا بأمان. كلّ إنسان كون معزول بمفرده. هذا ما جال بخاطري وأنا أتأمّل المعزّيات في مجلس فاتحة والد (دلال)، التي تبدو كغبار كونيّ (سديم) كما تسمّي نفسها في المنتدى الأدبيّ على الشبكة. 


كانت أوّل مرّة أراها، لكنّي رسمتُ لها صورة في مخيّلتي من وحي قصائدها: الحسناء المزهوّة محطّمة القلوب! وكانت جميلة بالفعل، لكن ليس كما تخيّلتُ، جميلة لكن كزهرة صحروايّة لا تدري أنها ليست مجرّد عشبة. وعلى تقاسيم وجهها غلالة مرخاة، ليست من حزن بل من حياد. وإذا تلفّتتْ أو أطرقتْ أو قامت تبدو كمن أضاع شيئا.


في أحاديثنا الهاتفيّة كانت تضيع كثيرا في دروب الكلام، وتكرّر: أين وصلنا؟ ماذا كنتُ أقول؟

في النهار كنّا نتحّدث هاتفيّا، وفي الليل على المسنجر، بلا مبالاة باعتراض زوجها وانتقادات أمّه.

في إحدى مكالماتنا قالت: سأعترف لكِ بشيء. أخافتني نبرة الخواء في صوتها، وبعد وجوم قالت: أنا قتلتُ قطّتي! وسكتتْ وسكتُّ، ثمّ استدركتْ: لم أفعل ذلك عمدا... كان ذلك منذ زمن طويل.

لم أسألها عن التفاصيل أو أحثّها على قول المزيد. 


هل تكذب دلال؟ هل تعاني من نسيان مرَضيّ؟ في محادثة على المسنجر كتبتْ لي: أحبّ البلابل كثيرا، لكنّي لم أربّ أيّ بلبل منذ مات بلبلي، قتلتُه خطأ.. أخبرتُك بذلك من قبل، صحيح؟ 

لم أعلّق، وأدرتُ الحديث إلى جهة أخرى.


في غرفة الانتظار بالمستشفى دخلتْ أمّ زوجها، سلّمتْ وجلستْ على المقعد بجواري، لم تعرفني ولم أعرّفها بنفسي. بدأتْ تتحدّث عن آلام المفاصل، المسكّنات، العمليّة الجراحيّة التي تتردّد في الإقدام عليها. تضجّرتْ من طول الانتظار، وكانت قلقة على قِدْر الهريس الذي تركتْه على النار. قالت: سيحترق الغداء وزوجة ابني نائمة! تصحو ظهرا وتبقى في السرير تقرأ! وفي الليل تسهر لتثرثر مع صديقتها، وتترك ابني لينام وحده.

ضحكتُ في سرّي على طرافة التناقض بين شخصيّتي كصديقة شرّيرة في قصّة الخالة، وبين صورتي في عينيها الآن كبنت طيّبة، أحبّتْها وكافأتَها للتوّ بعلكة دسّتها في يدها وأغلقتْ عليها قبضتها مثل ورقة نقديّة من فئة كبيرة. وقالت: تبدين مختلفة عن بنات هذه الأيّام. هل تستيقظين مبكّرة وتطبخين الغداء لزوجك؟ أجبتُها: أطبخ ليلا بعد أن ينام الصغير.

زفرتْ وقالت: زوجة ابني لم تحبل حتّى الآن، لله الحكمة.. من يدري، لعلّها لو كان لها طفل لنسيتْ أن ترضعه! أو ضيّعتْه كما تضيّع مفاتيحها ومحفظتها، أو ربّما تقتله خطأ كما فعلتْ بأختها الصغيرة.