الثلاثاء، 31 مايو 2022

ندف الثلج

 



كان قد انقضى شهر من العام الدراسيّ يوم انتقلتُ إلى مدرسة (الملز) المتوسّطة. قادتني الصدفة لأجلس بجوار (غدير)، علّقتُ حقيبتي على ظهر المقعد الخشبيّ، ووضعتُ عباءتي المطويّة في درج الطاولة.


لعلّها لم تكن صدفة، بل لأن المقعد المجاور لغدير كان شاغرا، فلم يكن لها صديقة قبلي. أو لعلّ كلتانا شعرتْ بالانتماء إلى هذا الركن القصيّ من غرفة الصفّ، متخلّيتان عن المقاعد الأماميّة "لصاحبات الأرض". 


في البداية واجهتُ صعوبة في فهم لهجتها "أختي ربا بندلعّا روبي، وأخي علاء بندلعو بنّاديلو لولي". كانت أطول منّي كثيرا، شعرها حريريّ أشقر، وشعري المموّج يتوهّج بحمرة الحنّاء. لم نكن نشبه بعضنا، ما جمعنا هو اختلافنا عن زميلاتنا النجديّات السمراوات بشعر فاحم، وإن كانت بشرة إحدانا بلون الحنطة والأخرى كبياض الثلج.


تحكي لي غدير عن عائلتها، عن أخيها الأزعر الذي يلعب "الطابة" داخل الشقّة فيكسر "الڤازا والزريعة" لعلّها تقصد بالڤازا صورة مؤطّرة ومعلّقة على الحائط؟ لكن لماذا يوجد زرع في صالتهم! رأيتُ أخاها مرارا، يقف بانتظارها بعيدا مطأطئ الرأس بأذنين حمراوين، يحمل عنها حقيبتها ويذهبان إلى البيت مشيا. "الصبيان زعران" تقول غدير. تذكّرت منام البارحة؛ كنت أقف أمام بحيرة تحفّ بها الأشجار، الوقت عتمة، لكن الرؤية واضحة مثل ليلة مقمرة، لا نسمة هواء تهزّ غصنا، ولا فراشة تطير. أتحرّك بهدوء وسط اللوحة الساكنة، على حواف الأوراق ندف ثلجيّة بأشكال بديعة، ما أن أمسّها حتّى تذوب من فرط رقّتها، وجدتُ أخي فجأة أمامي، قال بصوت كالفحيح: "لا تلمسيه.. هذا كلّه عفن" نفضتُ يدي وانقبضتُ، وتلاشت اللوحة الساحرة كما يتلاشى الضباب.


معلّمة التدبير المنزليّ تصرخ وتحدجنا بغضب، لكنها ترقّ عندما يقع بصرها على غدير، لم تكن غدير متفوّقة في أيّ مادّة، كانت كسولة، ولا تزيّن دفاترها، ومع ذلك تفضّلها علينا، ترفض أن تتذوّق أطباقنا، وتأكل من سلطة الفواكه التي قطّعتها غدير، ربّما تشعر أن أيدينا متّسخة، أمّا يديها فبيضاوين مثل الأيدي التي تظهر في إعلانات طلاء الأظافر على الصفحات اللامعة للمجلّات.


كنّا قد رفعنا سفرة الغداء عندما اتصلتْ هاتفيا، ردّ عليها أخي: "زينب تتغدّى" وأقفل الخطّ، ثمّ رمقني غاضبا: قولي لصديقتك إن والدي لا يسمح بالاتّصال وقت الظهيرة. يصعب عليّ أن أعرف أيّ الأمور تغضب أخي، مرّة سهوتُ في اللعب عن تبديل فوطتي الصحيّة، أشار إلى بقعة دمّ على ملابسي متّهِما: "ما هذا؟" شعرتُ بالمهانة ولم أجب، أمسكني من معصمي وهزّني "تكلّمي! ما هذا؟" لم يفلت يدي إلا حين صاحت أمّي "اعبيييييد.. استح على وجهك".


كان والداي يشربان الشاي، وإخوتي يشاهدون التلفزيون، أنهيتُ مكالمتي مع غدير وانضممتُ إليهم.

  • عيب البنت تتكلّم على التليفون كلّ هذا الوقت.

  • (شعرتُ بالحرج ولم أجب).

  • صديقتك أردنيّة؟" 

  • سوريّة.

  • زلمات! أكيد أبوها يشتغل في المباحث، يكسب رزقه ورزق عياله من تعذيب المساجين.

تخيّلتُ والد غدير أضخم من والدي، ببشرة حمراء كبشرة علاء، يمسك سوطا ويجلد السجناء، ينفجر الدم من الظهور العارية ويرشّ وجهه وملابسه. يعود إلى البيت بملابسه الملوّثة، يحمل بيديه الغليظتين أكياس التسوّق، تتناول غدير درّاقة حمراء من الكيس وتقضمها، يختلط دم السجناء بكرز شفتيها.


أفكّر بعلاء الذي يطعمه أبوه المال الحرام، علاء الأزعر الذي يخبئ وجبة الفسحة ليتقاسمها مع أخته. أفكّر بأخي الذي يكدح والدي في دكّانه ليطعمه اللقمة الحلال، أخي الذي سمّم حديقتي السحريّة وأحرق ندف الثلج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق