الخميس، 12 يوليو 2018

بوّابة


بوّابة

لسنا كاملتين ولا ذكّيتين لا أنتِ ولا أنا، بل على العكس، أنتِ ساذجة بشكل مثير للشفقة يا أمّي. ينقصكِ الكثير، وبينما يراك الناس امرأة استثنائيّة أراك كائنا مسكينا بذل جهدا جبّارا ووصل أقصى كماله المتاح، لكنّ كمالك مثير للشفقة يا أمّي.

لقد أحسنّا صنعا، نجحتِ في إنتاج نسخة محسّنة منك، اغفري لي ادّعائي بأنّني أفوقك ذكاء، كمّا أنّني أقدر على التحكّم منك، أنتِ مسلوبة تماما ماما، لا يمكنك السيطرة على غضبكِ حتّى، والمثير للشفقة أنّكِ عندما تغضبين تبدين كائنا بائسا يؤذي نفسه أكثر ممّا يخيف، ولا يؤثّر مطلقا.

الفرق بيننا ليس كبيرا، أنا أيضا يصفونني بالضعف، وبأني مسالمة إلى حدّ لا يُحتمل، يقولون أيضا بأنني لستُ ذكيّة جدّا، لكنّني أبليتُ بلاء حسنا ُوصنعتُ نسختي المحسّنة.

لستُ أفهم هل أحملك داخلي؟ وهل يحملنا نحن الاثنتين داخله؟ كم جيلا يحمل؟ لقد أنجبته يا أمّي، ظهر أخيرا؛ السرّ الذي توارثناه. لذلك لم نكن ذكيّتين، كنّا قناة لمروره فحسب، إنّه ذكيّ يا أمّي، حتّى إنّه يشعر بنا، بي وبك وبكلّ الأموات الذين عبر بهم.

صادم إدراك الإنسان أنه مجرّد قناة، حامل للأمانة، لكن ذلك لا يوازي الألم الذي يشعر به. إنّه في ألم دائم. ينعته إخوته بثقيل الظلّ، ويسمّونه العجوز، إنّهم لا يدركون، لكنّك حتّما تدركين مثلي بأنّهم ليسوا مخطئين، وإن أساؤوا التعبير. ألم أقل لك إنّه يحمل داخله حيواتنا؟

عندما كان ذائبا في خلاياي؛ كانت لمعة بهائه تلفّني وتشدّ إليّ الأنظار والقلوب، وفي اللحظة التي تزلزلتْ خلاياي وتجمّعت عناصره؛ منذ اللحظة التي قرّر الإله أن يستوي السرّ بشرا، صرتُ أنا عنقودا قطف عنبه، حلية انتزعت فصوصها، ومذ تجلّى لعينيّ بهاؤه ما كفّت عن البكاء إلا لتغرورق.

عمّدتُه بالأمنيات الضائعة، بالأحلام التي فسدت قبل أن تفقّس، تلوت عليه وصاياي، مطرقٌ وسنيّ عمره الثلاث تتقوّس تحت وطأة الوعي، كلّما ألقيتُ في قراره اتّسع وازدراد نهما.

لم يكن بحاجة لشيء غير المفتاح لينطلق، كان جاهزا، ومعدّا بكلّ شيء.

ما أن منحه المعلّم ثمانية وعشرين حرفا حتّى شرع يكتب، يمتاح من بئر غيبيّة، يرسم مشهدا للقيامة ويرصّ حروفا على حواشي الورقة.

تحصّن بصنوف اللقاحات قبل أن يحصل على سجلّ صحيّ، أريدَ له أن يختزل التجارب في ذاكرته، أن يؤهّل باكرا، كنتُ البرج الذي يتلقّى الصواعق نيابة عنه، أحترق وينتفض في أحشائي.

شاركني الإغماءة الخفيفة أثر الضربات التي تتالت على رأسي، كلانا لم يشعر بالألم، بل بخوف عارم وجفاف في الحلق، لا ألم، فقط لزوجة السائل الأحمر ِتغرق ياقتي وتسيل على الظهر، والغرز الأربع ولفافة الشاش والأنّة المكتومة، وإنكار ما حدِث!

بأوردتنا حقن ذات المصل السماويّ، يدبّ الخدر بي، فتستكين جوارحه الصغيرة، تتلقّى الوحي الأوّل، ترتعش شفتاي بالاسم، يجفّ الأكسجين من غرفتي، وتسيل دمعة.

مقسوم لك أن تعيش المعجزة الكونيّة؛ الفتور إذا يدكّ الهيكل خشوعا أو انتشاء، والروح إذ تلوب وتكابد العروج، وإذ أنت شيء لم يملك اسما بعد.

هذا النزف كيف أفصده منك؟ هذا المارج عليه أن يجد ثقبا ويسيل قبل أن يفيض ويُغرق ويسدّ عليك الثغور.

أعيذك بالأسماء من لعنة الشعر موئلا.. انجُ بنفسك وتجافَ عن محرقة الشعر!