السبت، 17 يوليو 2021

بكائيّة الفنجان المسكوب



كنتُ طفلة هزيلة، أعاني من فقدان الشهيّة، لذلك كانت أمّي صارمة حيال الكلمات التي تقال على المائدة، لم تكن تسمح لإخوتي بالكلام عن قطّة مدهوسة أو حمامة ميّتة تغطّيها الديدان، لأني قطعا سأقوم ولن أكمل طعامي.

كانت شراهة أختي الكبرى تثير اشمئزازي، وبالقدر نفسه تثير إعجابي، بإمكان أختي أن تستلّ شعرة بطول ١٠ سنتيمترات من سندويش الفلافل وتكمل التهامه بشهيّة كبيرة.

كلّما كبرتُ تفاقم هذا الاعتلال في شهيّتي كما يتكاثر العفن. لم تعد المناظر والروائح السيّئة وحدها ما تثير اشمئزازي، حتّى الشاب المهندم ذو الشعر الناعم الممشّط بعناية الذي جاء لخطبتي تسبّب لي بنوبة غثيان.
بقيت عائلتي في حيرة تتساءل: ما عيب هذا الشاب! لم أخبرهم بأن بشرته غريبة وكأنهم نقعوه في حوض الاستحمام طوال الليل قبل أن يأتوا به، بدا لي رماديّا باردا مثل جثّة. 

كان خطيبي يصغر أختي الكبرى بخمس عشرة سنة، وكانت تعامله كأخيها الصغير المدلّل، تطبخ له الأطعمة التي يحبّها، وتصغي إليه بحبّ مثل طفل يلثغ. بإيماءات من رأسها ويديها تحثّه على مواصلة الكلام وتشجّعه بالضحك، كانت توشك على التهامه مثل سندويش فلافل. سماجته المقرفة كانت عندها مجرّد جثث عفنة طافية، تبعدها مثلّما تهشّ ذبابة عن طعامها أو تستلّ شعرة من لقمة بفمها.

قديما شبّهوا اللئام بالجيَف التي ترتفع على سطح الماء. وشبّهوا الشرفاء بالدرر التي ترسب في القاع، لكن ليس صحيحا أن الناس صنفين: درر وجِيَف، الصحيح أن كلّ إنسان بحر، تسبح فيه الدرر والجيف مثل حساء مقزّز.
كلّ إنسان كوب قهوة، تطفو على سطحه جثث عفنة، وبإمكان أختي أن تخوض الفنجان بإصبعيها لتخرج الجثّث ثم تشرب قهوتها، بإمكانها أن تحبّ خطيبي بعينيه الجبانتين، وبشرته الرماديّة، ويديه الباردتين المبلّلتين دائما بالعرق. 

 وأنت… أطيب فنجان قهوة، برغم الرغوة الكثيفة التي تثير غثياني. أنا التي أعاني من اعتلال مزمن في الشهيّة لماذا علي أن أتجرّع تفاهاتك الدسمة (كرمال) قهوتكلماذا عليّ أن أشتبك في صراع يومي مع قسوتك ولا مبالاتك؟ قل لي بربّك لماذا أسوأ ما فيك يطفو على السطح؟ 

الجمعة، 2 أبريل 2021

التفكير بطريقة شاهنشاه

 


الجنّ لا يفرّقون بين الجدّ والهزل، هكذا تقول الحكاية.

فالزوج الذي نادى: "يا إبريق خذها!" لم يكن جادّا، كان يريد أن يخيف زوجته الجبانة التي قطعتْ نومه لأنها تخاف أن تنزل وحدها من السطح في منتصف الليل لتذهب إلى الحمّام. لكنها أبطأتْ كثيرا في الخروج، ولمّا فتح باب الحمّام لم يجدها.
أمّي لم تقبل اعتراضي حين قاطعتُها وقلتُ: لماذا ينفّذ الجنّي إبريق كلام الزوج دون تفكير؟ وتخلّصتْ من سؤالي بإجابتها المعتادة: "القصص لا تُعارض". ثمّ واصلتْ سردَ الأحداث العجيبة، ومغامرات الزوج لاستعادة زوجته من عالم الجنّ.

قبل ذلك لم أكن اعترض على مثل هذه التلفيقات، عندما سافرنا إلى إيران للمرّة الأولى قال لي أخي الذي لا يتوقّف عن إخباري بالأكاذيب والخيالات: "عندما تكونين في إيران فإيّاك أن تقولي كلمة (شاي)، لأن اسم ملكهم (شاينشاي)، وإذا قلتِ اسم ملكهم يذبحونك" ومرّر جانب يده على رقبتي كنصل سكّين. لم أسأله لماذا يذبحوني وأنا لم أشتم ملكهم؟

لكن الجنّ والإيرانيّين ليسوا الوحيدين الذين لا يعنيهم إن كنتَ قاصدا وجادّا أم لا. سحرة علوم الطاقة اليوم يقولون بأن اللاوعي لا يفرّق بين ما تريد الحصول عليه وبين ما ترفضه، فأيّا كان الشيء الذي يتردّد على لسانك وتوجّه تركيزَك إليه سينجذب إلى واقعك. وكبيرهم فاديم زيلاند يقول إن (البندولات) لا تعرف هل أنت من أنصارها أم من أعدائها، فهي ستجرفك في دوّامتها على كلّ حال إن وجدتْك تحوم حولها.  

ستقول لي إن كلّ هذا هراء، أنت تنكر أن هؤلاء ليسوا الوحيدين كذلك. عندما كتبتُ تعليقا هنا في فيسبوك بأن المرأة المتبرّجة كانت على حقّ وأن الحوزويّ أخطأ، لم أقصد بأن التبرّج حقّ وصواب، وكان بإمكانك أن تناقشني هنا على صفحتي، لكنك صدمتَني بنسخ كلامي وطرحه للنقاش في قروبنا على واتساب، هل قلتُ للنقاش؟ أقصد للمحاكمة.
أنت لست ساذجا، ولم يكن تصرّفك عفويّا، استدرجتَني إلى الفخّ وأنت تعرف بأني لن أهرب من المواجهة ولن أوارب، أردتَ أن تنازلني في أرضك وبين مشجّعيك الذين تدرك جيّدا أنهم يفكّرون بطريقة إبريق وشاينشاي، فهم لم يفهموا من الموضوع كلّه إلا كلمة حوزويّ، إذن فقد ذكرتُ آلهتهم بسوء، وطبعا لا حاجة ليتبيّنوا فأنت الثقة.

أسلمتَني إليهم ووقفتَ تتفرّج وهم يرشقوني بالحجارة، جعلتَ منّي هدفا يصوّبون إليه سهام ارتيابهم وقهرهم وخذلانهم، جعلتَ منّي تجسيدا ليزيد الذي قتل الحسين، للطغاة الذين اضطهدوا أسلافهم على مرّ التاريخ، لبناتهم اللاتي لم يحسنوا تربيتهن، لأولادهم الذين خرجوا عن تقاليدهم، سلّمتَ إليهم (الشيطان الصغير) الذي يجب أن يكسروا قرنيه ويقصّوا مخالبه قبل أن يكبر ويتوحّش.


الأحد، 14 مارس 2021

أشرُقُ بالذكرى




بحفاوةٍ أستقبِلُ الفجرَ، أفتحُ له النوافذَ وأزيحُ الستائرَ وأطفيءُ المصابيح. نورُ ما قبلَ الشروقِ بهجةٌ صِرفة، لا ينبغي أن تخالطها مؤثّراتٌ أخرى. يتردّد في خلدي بيتُ شعرٍ قرأتُه البارحة في تويتر: "أسَفي على البيتِ الذي ناديتُه من فرطِ وحشاتِ الملاجئِ منزلي". يقولون أن الميّت إذا ضغطه القبر يسيلُ حليبُ أمّه من منخريه. هذا يعني أن ما يدخلنا لا يخرج، وإنْ خيّل إلينا أننا ننسى ونتجاوز ونتعافى. تمتمتُ: "أسفي على البيت الذي..." وشرقتُ بِريقي. انبجسَ الماءُ الغائرُ في شقوقِ الذاكرة، وطما فسدّ عليّ منافذ النفَس. عدتُ طفلةً أمسكُ بيدِ أختي في عين (الخَدود)، الأطفالُ الصاخبون يقفزون في الماء، النساءُ على الضفافِ يدعكن أجسامَهن بالسدرِ والصابون. 
طفلةً في الرابعةِ شديدة التعلّقِ بأختِها الكبرى التي خطفَها ابنُ العمّ، ذهبَ بها إلى بيتِه البعيدِ لتسكنَ وحيدة. طفلةً قليلةَ الكلام، لا تعرفُ الطريقَ إلى بيتِ أختِها على بُعد حارتين، لا تبكي، لا تسألُ، لا تشكو؛ لكن الشوقَ يحيّرُ لبّها. في المنامِ رأيتُ أختي عادت إلينا، وأنا ألاحقها حيثما ذهبتْ وأطوفُ حولَها، لكنها تصدّني وتعبس، ثمّ صاحت في وجهي ودفعتْني بعيدا. أفزعني الحلمُ وذهبتُ أبحثُ عن أمّي فوجدتُها في المطبخ، إخوتي السبعة نائمون، وهي مشغولةٌ بإعدادِ العصيدةِ للإفطار، قصصتُ عليها الحلمَ باكيةً، لم تنظرْ إليّ، قالت وهي تصبُّ الماءَ المغليَّ على السكّرِ المعقود: "تفسيرُ حلمك أن أختَك مشتاقةٌ إليك"، طشّ الماءُ في القدرِ الساخنِ وارتفعتْ غيمةٌ بخارٍ كثيف، وأكملتْ: "الأحلامُ تفسّر بعكسِها".
صدقَ حلمي وجاءت أختي لزيارتنا، تعلّقتُ بها لتأخذني معها، كانت ذاهبة لتستحمّ في العين، وسمحتْ لي أمّي بمرافقتها.
أنظرُ بوجلٍ إلى الماءِ العميقِ المخضرِّ بتأثيرِ الطحالب -الطحالب الكريهة التي ستلازم كوابيسي- وأفكّرُ بالحراسين التي أخبرني أخي أنها تعضُّ الأصابعَ وتأكلُ الجروح. ألوذُ بالحافّة وأحدّقُ في السورِ الصخريّ شديدِ الانحدار يحيطُ بنا مثل مصيدةٍ محكمة. دعكتْ أختي شعري بشامبو له رائحةُ النُقْلِ المُرّة، وبحركةٍ سريعةٍ خرقاء دفعتْ رأسي براحةِ يدِها وغمرتْني في الماء، دخل الماء إلى حلقي ومنخريّ مشبعا برائحةِ الطحالب والمذاقِ المُرّ للشامبو، أخرجتُ رأسي وأنا أشرُقُ وأكحُّ وأفرُكُ جفوني المحترقة، غضبتُ من أختي التي أرادتْ أن تغرقَني، لم أعدْ أشتاقُ إليها وأنتظرُها،...  الأحلامُ تفسّر بعكسها.