الخميس، 8 نوفمبر 2012

التمرّن على الموت (2) ... هل شربت خمرا وعاشرت جثّة؟

لا عيب في أن تستقدم خادمة، أو توظّف أجيرا للقيام بأعمالك نيابة عنك.

لا عيب في اقتناء غسّالة أوتوماتيكية تخرج الثوب مغسولا مجفّفا مكويّا.

وميكروويف يعيد لك الخبز البائت كيوم ولده التنور.

لا ضرر من كلّ هذا غير أنك ستوكل لغيرك مهمّة مقابلة الوجه الحقيقيّ للحياة.

أنت تسمح لهؤلاء بأن يزوّقوا لك جثّة ويسلّمونها لك دمية مبرّجة .. وهم إله .. صنما.. تسجد له وتعاشره وتقاتل دفاعا عنه.

هل تملك الشجاعة لتفتح عينيك مرّة واحدة وتلقي نظرة في وجه الحياة وأنت يقظ وهي بلا تبرّج؟

إذن أمسك بالفرشاة ونظّف مرحاضك بنفسك، ورافق ملابسك في رحلة تحوّلها من خرق متّسخة إلى حلل صقيلة، وكابد تكرار غسل الصحون ثمّ اتّساخها ثم غسلها ثمّ اتّساخها إلى ما لا نهاية، جرّب شعور السخرة، شعور أن تبقى رهين خدمة طبق من زجاج أو معدن أو بلاستيك.

إيّاك أن تأكل في المطاعم؛ تجلس على طاولاتها النظيفة في غرفها المكيّفة ويأتيك طلبك في غضون دقائق.

هذه  كذبة.. الطعام لا يأتي هكذا..

اذهب للسوق وتبضّع، واحمل أكياسك إلى البيت، نظّف المواد وحضّرها، واجه نتانة اللحم وحرقة البصل، وتعرّف على الأتربة العالقة في الجذور وعلى القشور والبذور وأنواع الطفيليّات والمنغّصات، ثمّ واجه حرارة الفرن، وجرّب الصبر والانتظار.

هل تفكّر بعدها في إعادة التجربة؟ أم ستفضّل تناول رغيف خبز وقطعة جبن؟ أم لعلك ستحسد الملائكة الذين لا يعرفون عذاب الجوع وعذاب الشبع؟

أنت متأكّد أنك لم تعاقر خمرا قط؟

فما ذلك السائل المقطّر في قارورة ترشّ رذاذا منه فيدور رأسك وتدير (رؤوسا ما) ؟!

وما هذه الخلاصة النفّاذة الرائحة ترشفها من فنجانك فتغيب؟

وما هذا الحلو جدّا بشكل مكعبات بيضاء في سكّريّتك؟

وهذه البرودة المقطّرة والمعتّقة في غرفتك وسيارتك في عزّ الصيف الملتهب؟

من سمح لك بتقطير الطعوم والروائح والهواء؟

يا قاطف خيوط الحرير والخزّ ولابسها وواطئها ومتّكيها
يا سارق أهداب الزعفران ودموع اللؤلؤ
يا أكبر سكّير وعربيد عرفته مملكة الوجود ..

وتريد أن ترى الحقيقة؟!

 

 

الاثنين، 2 يوليو 2012

التمرّن على الموت (1) ... الزمن


الساعة لا تعرف الوقت، إنها آلة معطوبة، تفقد ذاكرتها كلّ نصف يوم وتعود القهقري. الروزنامه أيضا عرّافة محتالة، لا تعرف إلا العدّ حتّى الرقم 12، ولا تعرف ما هو العدد الذي يليه. لهذا كان عليّ أن أدبّر طريقة لقراءة الزمن، فتعلّمت الإصغاء إلى الأشياء.

الزمن له ثقل، هكذا تخبرني الأشياء، أسمع المنضدة تتأوّه تحت ثقله، وتندّ عنها مسحة غبار. زوايا البيت ترتسم على جبينها تجاعيد نسيج العناكب، دبيب أرجل الحشرات وحفيف أجنحتها.. ظلالها الخاطفة.. شكوى مستمرّة من ثقل الزمن، وعليّ أنا القائمة على هذا المكان مهمّة مواساة الأشياء، لتحتمل وطأته.

شيء ما فيّ يهبها الحياة، فلا تعود الأشياء لسكينتها حتّى أمسح بيدي على كلّ عضو في جسد المكان: تمسيدا ورتقا ونفضا وطيّا وبسطا.. هذا ما أتقنه. أخبر المكان أن لا يستسلم للوهم، أقول للجدار هذا الذي على جبينك ليس شرخا، وللسجّادة أقول أمسكي خيوطك ولا تتركي الهلع يفتّتك، أقول للباب هذه الحشرجة ليست صوتك، إنه الزمن، هو من يفعل هذا بكم.
الفرق بيني وبين أمّي أنها كانت تفعل هذا بحبّ، وأنا أشعر أنها مسؤوليّة، الأشياء تشعر بجفائي وتنتقم منّي في الخفاء.

ولأنّي أغيب كثيرا، ولا أشعر بالزمن، ولأنّي لا أحتفظ بساعة ولا روزنامه، تضطرّ الأشياء لتتثاءب وتسعل وتتململ لأشعر بها.
لا أتوقّف عن التفكير في الهروب، والعودة إلى البيت، هناك حيث المكان تحبّه أمّي وتحميه من الزمن.
هي أيضا تريدني أن أعود، لكن بطريقتها، وأنا بنت عنيدة، أخبرتْني أن لا ألقي بالحصى على طول الطريق لأرسم خطّ العودة، قالت لي لا تصدّقي الحكايا، هذه الطريقة لا تنفع.

قالت أنّ الطريقة في عالم الحقيقة أن تعفي آثار أقدامك، وأن تيمّم نحو الضياع لتجد الطريق.
قالت إنّ بنتا مثلي لا بدّ أن تعود، لأنّها لا تهزم الحنين، أخبرتني أنّني مصابة بعلّة السهو والنسيان، وأن هذا يعني أنّني أينما توجّهت سينخر الزمن وجهتي، وسأتسرّب عبر الثقوب وأعود إليها، لكنّي لا أصغي، وأملأ ثقوب المكان بالعلكة.

مضغ اللبان ليس حيلتي الوحيدة، أنا ماهرة في الحيل الصبيانيّة، أعرف كيف أحرّف الأشياء وأغيظها وأشمت بها، أعتبر هذا إبداعا، وتعتبره أمّي سوء أدب.

هناك أكثر من طريقة لإنجاز الأشياء، لكنّ أمّي لا تصدّق ذلك، وتصرّ على إنجاز الأشياء بطريقة واحدة، هي طريقتها.
أنا الآن في منفاي أعيش كما يحلو لي، أنا سيّدة المكان، وعلى جميع الأشياء أن تذعن لطريقتي.

أكره هذا المكان لأنّه دائم الضجيج والشكوى، ولأنّه يحسبني ناضجة وقادرة على تربيته. صدقا أنا أعرف الطريقة الصحيحة لإنجاز كلّ شيء، أتقن الوصفة السحرية جيّدا لكنّي أميل للابتكار!

مثلا توجد طريقتان لمناورة الزمن –أمّي لا تعرف إلّا واحدة- الأولى أن تتعامل معه كتيّار وتسبح حيثما يحملك –وتلك طريقتها- والثانية أن تعانده وتقف له بالمرصاد –أفضّل هذه الطريقة- وطبعا سأتحمّل تبعاتها، كلّ الطرق لها تبعاتها.

ولهذا ينتقم منّي الزمن، ويرسل كائناته لإزعاجي. لكنّي لا آبه به ولا بكائناته، أينما اختبأ وجدته بيسر ودون أن ألتفت حتّى، أعرفه منذ النظرة الأولى ولو لبس ألف قناع.

رائحة نفَسه تنبعث من بقايا الطعام، من الأواني غير المغسولة، من الملابس المنقوعة في الحوض، آثار أظافره على أسطح الأثاث، أنظر بازدراء لأسراب النمل وأعرف أنّها رسله لإزعاجي.

هذا المعتوه المغرور يعاملنا مثل ربّ عمل لا يرحم، يحاصرنا بالكثير من الأعمال ولا يمنحنا إلا القليل من الوقت، وبهذا يضمن أنّ النقود التي تخرج من جيبه لا تدخل جيوب خصومه، بل جيوب عبيده.

أخبرني ما هو أفظع ما يمكن أن تفعله بمن يعتقد أنّه سيّدك؟
ازدراؤه طبعا.. تغيظه وتشمت به.

صحيح أنّك تتصدّع مثل جدار مشروخ، وتنحلّ قواك مثل خيوط سجّادة مهترئة، وتدبّ كائنات خفيّة في رأسك وعلى جسدك مثلما تفعل الحشرات في كوابيسك ويقظتك، لكنّك حين تسقط في النهاية تكون قد قاومت الزمن ببسالة، ونلت شرف الحياة بحريّة.

الأحد، 13 مايو 2012

ورق ترشيح .. وإسبارتيم .. وجعدة بنت الأشعث

دائما تساءلت كيف يمكن للكمّل معاشرة  الشياطين؟
السيّدة آسيا كيف احتملت فرعون؟ أنبياء الله نوح ولوط كيف عاشا مع زوجتين "خائنتين"؟
دائما قلت لنفسي: سأتغاضى عن جعدة الملعونة كيف لم تتأثّر بالحسن السبط؟ لكن السؤال الذي طاردني: كيف أمكن لرجل بهذه الكمالات أن يقاسم لحظاته الحميمة مع شيطانة؟
أليس المقاربة الجسدية تحتاج قدرا من القبول؟ المحبّة؟ الصدق؟ والا استحالت ممارسة حيوانية؟

وصلت إلى أجوبة متعدّدة .. تشير في أغلبها إلى أهداف سياسية أو رسالية .. هذا قد يفسّر نفس الإقدام على الزواج، لكنه لا يفسّر حقيقة العلاقة؛ على ماذا كانت مبنيّة؟ ما تفاصيلها؟
خصوصا أننا نتكلّم عن كمّل، لا يظلمون الشريك ولا يحرمونه ولا يخونونه، فمن أين سيأتون بلغة للتفاهم مع شيطان؟

اليوم خطر لي شيء.. قد يصلح كإجابة

الله الرحمن الذي كتب على نفسه الرحمة وقسّم للكائنات أرزاقها؛ لم يحرم من تلك الأرزاق حتّى الأشقياء من أمثال جعدة، الله عندما أوجدها منحها حظا ربّانيا، القدر الربّاني في الكائنات خليق بالحبّ، قد يظلم المخلوق نفسه ويختار الشقاء والحرمان، لكن القدر الربّاني فيه يبقى محفوظا، وإلا فما بكاء الحسين (ع) على أناس يدخلون النار بسببه؟ وما رحمة رسول الله بالكفّار؟ وما اعتذاره عن جهل قومه؟ وما شفاعته للمذنبين من أمّته؟ إلا ملاحظة ذلك الجانب الربّاني في الوجودات المظلمة.

إذن فهل كان الإمام الحسن يمتلك قدرة نادرة على التحليل والفصل ليرشّح الوجود الربّاني في جعدة ويصفيه ويعزل الكدورات جانبا، ثم يتعاطى مع هذا الربّاني المصفّى؟

هذا ينتقل بي إلى فكرة أخرى قريبة.. ليس قريبة جدّا

هل الله سبحانه هذا المهندس العبقري للكون والموجودات، المبدع للجسور والأنفاق، هل انتهج أسلوب الحلول البديلة؟
يعني .. هل لعلمه بأنه لن يكون بوسع الجميع امتلاك موهبة الترشيح -وفصل الكدورات والاستمتاع بالربّاني المصفّى- وضع حلاّ مؤقّتا مصمّما على مقاس الناقصين، إلى أن يصلوا إلى رشدهم وكمالهم؟
هذا الحلّ يقضي برش رذاذ يشبه السكّر ولكنه سكّر مزيّف.. اسبارتيم مثلا.. من أجل تخدير وعينا نحن الناقصين لنسكر قليلا ونغفل عن كدورات الشريك الشيطان حين نقاسمه لحظاتنا الحميمة؟

المشكلة حين يكون أحدنا عالق بين مرحلتين .. بين الغفلة والصحو .. لا هو صاح تماما وقابض على موهبة الترشيح؛ ولا هو في سكرة الغفلة ويعمل معه الاسبارتيم.. حينها سيعجز الجرّاح عن تخديره رغم مضاعفة جرعة التخدير .. سيضطر حينها لإجراء العملية بينما أنت ما تزال في قبضة الصحو .. وتشاهد بكامل وعيك عملية السطو الوحشية على جسدك المسجّى بلا حول ولا قوّة.