الخميس، 29 أكتوبر 2020

أربّي الكلمات






وقعتُ في حبّ كلمة، في حضورها أشعر أن الطقس يتغيّر، الضجيج المحيط بي يخفت، توقظ فيّ مشاعر عميقة، حنينا إلى شيء لا أتذكره، إذا لم يكن ذلك حبّا فما عساه يكون؟ 




أربّي الكلمات كما يربّون الحمام والقطط، كأمّ أربّيها وأحبّ أشرسها كما أحبّ ألطفها. أعرف طباعها وملمسها ورائحتها، بعضها كالأفاعي سامّة لكن فاتنة، بعضها كزغب أجنحة الملائكة، بعضها تمتصّ روحك وبعضها ترويك. 

بعض الكلمات تتعلّق بها سريعا، وبعضها تتجرّعها ثمّ تدمنها، وبعضها تتعبك لكن ترفض التخلّي عنها.




الكلمات لا تعيش في المعاجم، المعاجم ألبوم صورها.
الكلمات أزهار، تميل بأعناقها فتذكّرنا بالطفولة. فراشات ترفرف فتفرش القلوب بساط بهجتها، وتشيّع العيون حسنها.




الكلمات عصافير لها زقزقة توقظ فينا ذكرى لغة منسيّة.




الكلمات أفراس أصيلة لها سلالات وشجرة عائلة. أحجار كريمة تبطن الأسرار. كائنات لها أرواح، تنفر من القسوة والاستغلال، وتشعر بالرفق والأنس، تحبّ من يلاعبها ويدعك فراءها. 

للكلمة اسم وسحنة ونبرة، ولها خفّة أو ثقل، طريقة في المشي والتهادي والخطف، بعضها بأشواك ومخالب، وبعضها ببتلات وبراعم.



بيدك أن تجلد الكلمات فتطيعك مثل حيوانات السيرك، تعدو كخيول السباق، ستبهرك طاقتها الكامنة، لكنك ستخسر روحها، تصبح كعارضات الأزياء، كالمانيكان، جمال قياسيّ مفرّغ من الإحساس.

بعض الكلمات نخرجها للاستعمال اليوميّ مثل حروف الجرّ والعطف.. وبعضها نخفيه كوصمة عار، مثل الشتائم. وبعضها نبجّله كالقَسم، بعضها نغار عليه ولا نبديه إلا لمن نحبّ.




بعض الكلمات نصادقه ونشاكسه بالمجاز، بعضها نتجنّبه لنثبت بأننا كبرنا، بعضها نتملّقه لنلتقط الصور بجانبه، بعضها نتعلّمه لننفثه كالسحرة في وجوه أعدائنا، أو نرقي به المرضى كالأطباء، أو نتدرّع به ونحصّن أملاكنا. 

الكلمات لها قدرة على جرح قلوبنا، كيّها، عصرها، خطفها، سحقها، إغراقها، ملئها بالنعيم والبشرى.




نحن نشرب رحيق الكلمات، فتستوطننا، تشكّل تضاريس وعينا، مناخ أمزجتنا، تعلّمنا طقوسها، تفرز علاقاتنا وتعيد تنظيمها، تلقي علينا شبها منها.




تلك الكلمة التي أحبّ فيها شبه من العجم، بحثتُ في شجرة عائلتها ولم أعرف من أيّ سلالة تنحدر، تفرّستُ في مشيها، إيماءاتها، فلم أزدد فيها إلا تحيّرا. سألتُ عنها المعاجم والمصادر فأنبؤني بمعناها، لكنها كلّما تلفّتتْ تبدّل وجهها، لو كان لمملكة الكلمات حاكمة متوّجة لكانت السلطانة بلا منازع.




فسبحان من أبدع وصوّر، سبحان من نضّد أحرفها، وموسق جرسها، سبحانه!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق