الأربعاء، 11 مايو 2022

"نكّروا لها عرشها"

 


أنام بعد مغيب الشمس، وأصحو قبل الطلوع. ليس ثمّة عصافير هنا تحتفي بالشروق، لا مطر، لا حرّ ولا برد.

هذا المكان خال من الكائنات الحيّة، لا يوجد فيه سوى هياكل ميتة، تطوف وتتجوّل بلا أرواح. ما أن أقترب من أحدها حتّى يخطف روحي، وأشتبك معه لأخلّصها منه وأستردّها.





الهياكل الساكنة والمتحرّكة تستمدّ الحياة منّي، ألمسها فتضيء لوهلة، أبتعد فتنطفئ، كأن هذا المكان عالة عليّ، كأني المصباح الوحيد في هذا الفضاء الكامد. بعض الهياكل أحبّها فأمنحها أسماء، وأعطيها قبسا من نوري؛ هذه نخلتي، وهذا كلبي، وهذي عصاي.


قبل أن أتعافى ويشتدّ عودي كانت الأمّ تتولى حمايتي من الهياكل الناهبة، كانت رفيقة بي، تكتفي بامتصاص القليل من نوري، يلتصقون بي هي وصغارها مثل القراد، يعبثون بي مثل دمية، ويشربون من دمي.





لا تلاحظ الأمّ أني لستُ صغيرها، عندما ولدتْ أوسط أولادها كنتُ حاضرا، برفقة الحارسَين، أحدهما أخذ رضيعها وأخفاه، والثاني وضعني في المهد مكانه، كانت نائمة وقد أجهدها المخاض.


الأب والأخوة يشعرون بأني من فصيلة أخرى، يقترب أحدهم مني ويسطو على بصري، فأراني في عينيه، كائنا غريبا: مخيفا كالنار، مضيئا كالقمر، حيّا كالماء، محيّرا كمتاهة. شيء فيّ يحفّز عندهم رغبة النهب كأنهم يرون جرّة مليئة بالذهب، شيء ما يوقظ فيهم غريزة الافتراس، كأني طريدة.





أتذكّر، إني أتذكّر؛ في المكان الآخر كان لي صديق، شقيّ وضحوك، وكان مهووسا بالسرقة، يسرق دون حاجة، يسرق بدافع المتعة، لكني لم أتخلّ عنه، أردتُ مساعدته ليتخلّص من هذا العيب، ولم يكن يصغي إليّ. 

عندما اكتشف والده أن السارق هو ابنه وليس أحد الموظفين الذين طردهم ظلما؛ وأدانه بالدليل القاطع، بكى وألصق التهمة بي، قال إني كنت أحرّضه وأبتزّه.


لا صديق لي في هذا المكان، ما حاجتي إلى صديق.


علّمني الأب حرفته، فأنا خزّاف، أصنع الجرار. وعلّمتني الأمّ كيف أحيك السجاجيد. أقطع مسافة طويلة مشيا على قدميّ إلى سفح الجبل لأجلب الطين، وأسافر إلى البدو لأشتري منهم الصوف. لا أتعامل مع التجّار. في المكان الآخر طالما باعني التجّار أسوأ ما لديهم من بضائع، لأني الزبون الذي لا يعيد إليهم بضاعتهم المغشوشة ويستردّ منهم ماله.





في المكان الآخر تزوّجت من أجنبيّة وافدة، كانت تنظّف مكتبي وتعدّ لي الشاي، صامتة وحزينة دائما، باكية أحيانا مع كدمات في وجهها وجسدها.

أفهمتُها أني مستعدّ للزواج منها، والعناية بصغارها إن تخلّصتْ من زوجها. لا أدري لو لم تكن جميلة بذلك القدر هل كنت لأساعدها بدافع الشفقة والرحمة المحضة.

ساعدتُها لتحصل على الجنسيّة وعلى وظيفة أفضل، تدريجيّا تركت على عاتقي كلّ الأعمال المنزليّة، متذرّعة بالتعب والمرض، حتى الاحترام استكثرتْه عليّ، وصغارها الذين طالما حميتهم من نوبات غضبها وقسوتها صاروا يشاركونها في شتمي.


لا أريد زوجة هنا، لا أريد أولادا.




هناك نشأتُ يتيما كفلني عمّي، درّسني اللاهوت والحكمة، ولمّا مات كفلني ابنه الأكبر، وواصل تعليمي الفتوحات المكيّة وفصوص الحكم، وفي أثناء الدرس كان يقبّلني ويلمسني.


أنا هنا لا أدرس اللاهوت، وإنما أسيح في أرض الله وأسرح في ملكوته وأسبّح بحمده.





إنني أتذكّر، لقد كنتُ فتنة الله لعبيده هناك، كنتُ الاختبار الأصعب الذي لم ينجح فيه أحد، لعنني الجميع، ولعنتُهم كلّهم. دعوا عليّ ودعوتُ الله أن يخلّصني منهم.


وها أنا ذا في منفاي وحيدا…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق