السبت، 15 ديسمبر 2018

إنِّي سَقِيْم

أنا حكيم، أحضّر الجرعة الشافية. أمرّر الإكسير الغباريّ عبر مسارات طويلة، محمولا داخل كبسولات محكمة الإغلاق وفائقة الطهارة. هذه الرحلة ضروريّة لحبيبات الغبار الإكسيريّ ليختزن البهجة والبركة. بعد ذلك أعبّئها في حقق نظيفة ليشربها من يشعر بالوهن. لكنّهم هنا يسموني النحّال، ويطرقون بابي طالبين مرطبانات العسل.
في دياري أدعى بالنسر الصاعد، ولي حبيبة أدلّلها " أثافي"، تأتي من أرضها البعيدة مرّة في السنة لتصيّف مع عائلتها في مراعينا. قرّرنا الهرب معا بعد أن رفض والدها تزويجها من راع فقير مثلي. حملتنا فرسي إلى هذه الأرض النائية، حيث لا يصلون إلينا. وحكت لنا طوال الطريق عن هذه الأرض التي لا يفترق فيها العاشقون، قالت أنّ القانون هناك لا يسمح بالرحيل، ولو تخاصما حبيبان يسند أحدهما ظهره إلى الآخر، ويبقى يسمع أنفاسه ويشعر بنبض قلبه. 
أثافي أحبّتْ هذا المكان منذ اللحظة الأولى. جرتْ في الأنحاء مثل ممسوسة، كانت ترتجّ بصخب وتردّد (هذا لا يُصدّق!).
كلّ يوم يمرّ تزداد حبيبتي تعلّقا بالمكان، وأنا يخنقني الملل. إنّها تتغيّر، أكاد لا أفهمها، تعلّمتْ لغة أهل هذه الأرض سريعا، وحين حاولتْ تعليمي واجهتْ صعوبة كبيرة، لم أعد أفهم مشاعرها، ولم نعد نتواصل بشكل جيّد كالسابق. قالت لي متألمة: (أنت لا ترى!) وأخذتني إلى طبيب فحصني وقرّر آسفا بأنّي أعمى. يقولون بأنّ العمى يعني عدم الرؤية، لكنّى أرى ما حولي، أرى نفسي وأرى حبيبتي أثافي. 
أرى أنّنا أصبحنا مختلفين، ونكتسب طباعا جديدة. أنا أكتسبها على سبيل الاضطرار، أمّا هي فعلى سبيل التقليد.
أشعر بأنّي لم أعد أحبّها كما كنت، هي كذلك غدتْ تحبّني أقلّ. عاتبتُ فرسي على ما فعلته بنا، واعتذرتْ بأنّها كانت تسمع عن هذه الأرض لكنّها لم تزرها من قبل.
أنا أتفكّك وأتبعثر، وأسير نحو الاهتراء والعطب. أمّا حبيبتي فقد أحبّت حال التبعثر الذي أصابتنا به عدوى هؤلاء. تبدو مزهّوة جدّا بامتداداتها، تدور وتدور، تقبض امتداداتها وتبسطها، تهزّها وتؤرجحها في حبور. أمّا أنا فأجرّ ورائي امتداداتي التي تثقلني وتبدّدني وتنذرني بالفناء.  
في الأيّام الأولى بدا لي الناس هنا متشابهين تماما، لكن أثافي قالت لي: (هذا لأنّك لا ترى يا قلبي!) تعلّمتْ أن تقول يا قلبي مثلهم.
تحاول أن تبرهن لي بأنّهم مختلفون، تصف وتقول: (ألوان شعورهم مختلفة، وألوان عيونهم، وكذلك لون بشرتهم، طولهم يختلف.. أوزانهم.. أصواتهم..) تدريجيّا بدأت ألاحظ أنّهم يختلفون قليلا، لكن ليس بالوضوح الذي تراه هي. لكنّي لا أستوعب كلامها عندما تبدأ بالحديث عن اختلاف تعابير وجوههم، أشعر أنّها تبالغ وتتباهى كذبا لتثبت تفوّقها عليّ. وعندما وصلتْ إلى اختلاف الإحساس الذي تعكسه عينا كلّ إنسان حنقتُ عليها وصرختُ في وجهها: (كفى تجديفا! توشكين على القول بأنّ هذه النوافير الراقصة البلهاء أنصاف آلهة!). لم تغضب، صمتت برهة ثم ارتجّتْ بصخب عارم وقالت إنّ تصويري في منتهى الطرافة.

في الصباح تنطلق كبسولاتي الطائرة لتبدأ رحلتها في جمع الإكسير الغباريّ. وتعود مساء ممتلئة الأجواف من الشربة الشافية. أجلس بالشرفة مسبلا امتداداتي كلّها، بما فيها براعم قمّتي السبطة المتناغمة مع مظهري الهامد. أراقب عائلة تتنزّه بالجوار. الزوجان الشابّان يستريحان على البساط، بينما الجدّ يحيط الفرد القادم بعنايته. 
الناس هنا لهم طريقة غريبة في الرؤية، لا هم عميان ولا هم مبصرون، هذا العيب فيهم يجعل معارفهم ملتوية ومشوّهة. مثلا القادم حين يكون بعيدا يبدو لهم أصغر حجما، بل لا يمكنهم رؤيته قبل أن يدخل نطاق إبصارهم، ولذلك يدعون سلالتهم القادمة بالصغار، ويبقون يسمّونهم أطفالا إلى أن يصلوا بكامل طيفهم. كثيرا ما تراهم يبكون بحرقة لأنّهم يريدون المزيد من الامتدادات المنفصلة، وكأنّ عناء امتداداتهم المتّصلة لا يكفيهم! يبكون بيأس وجزع مع أنّ امتداداتهم تسير باتّجاههم لكنّهم لا يرونها! يبدأون بالشعور بها فقط عندما تصل إلى دهاليزهم، فيسكن روعهم، ويشرعون في الاستعداد لاستقبال الهبة.
وبسبب عيوب الرؤية عندهم لا يدركون أنّ الامتداد المنفصل لا يصل دفعة واحدة، وأنّ كلّ طيف من أطيافه يصل على حدة. لكنّهم يحدسون بشكل غامض بالتغيّرات التي تطرأ على الامتداد المنفصل، ويسمّون هذه التغيّرات بالنمو. 
عندما يعبر القادم دهاليزهم يكون هامدا، ولكنّه يمتصّ بشراهة العناصر التي تجعله يتشكّل على هيئتهم. وحين يشرف على تجاوز الدهليز يلتحق به طيفه الثاني. الطيف الثاني على نقيض الأوّل، في نشاط مستمرّ، وعندما يلتحم بالطيف الهامد يجعله مشعّا ومضطربا لا يهدأ، كأنّ فيها شبها من طباع الشيطان. ويتعذب مربّوه حتّى يروّضوا جموحه. وما أن يتعلّم الانقياد حتّى يصل طيفه الثالث. وهو متمرّد لكن ليس بطريقة بهلوانيّة، بل على طريقة الثوّار الانفصاليّين، لكن جذريه يقيّدانه بعنف، ويقاومان انفصاله التامّ عنهما، وتنشب بينهم معركة ضارية لا تنتهي إلّا بإخضاعه أو بهزيمتهم. 
ذات مساء طرقتْ بابي أثافي، وبرفقتها كهل أربعينيّ، قدّرت سنينه من أطراف امتداداته، كان نورها كابيا، وبراعم قمّته منطفئة كالرماد.
قالت إنّ جارها يشكو من الدوار، تفحّصته وعرفت مكان علّته. سألتْني إن كان بالإمكان تقطير شربتي الشافية في أذنه، قلت لها: لا أعلم إن كان ذلك سيفيد.
قال لها الجار: (هيّا يا ذات المغزل...) -لم أعرف بأنّ حبيبتي صار لها اسم ثان ويبدو أنّه يعجبها أكثر من ذلك الذي اختاره لها والدها ومن الاسم الذي أدلّلها به- (.. لنذهب إلى الصيدلانيّ) أكمل جملته بنبرة كثيفة سائلة، أمالت هي رأسها -كما تفعل عندما يعجبها ما تسمع-. هذا الذي يدعونه بالصيدلانيّ هو في الواقع دجّال وما يمارسه هو عمل شرير وفاسد. يكفي أن تدخل إلى معمله لتشعر بمقدار تسمّم الهواء فيه. الحقق المصطفّة على رفوفه أغلبها سموم، ولكنّه يمزجها بمهارة وبمقادير مدروسة لتؤدي الغرض المطلوب، وهو مستعدّ لتنفيذ رغباتهم بلا أخلاقيات ولا ضمير، فحتّى لو طلبوا منه جرعة تقتل المرء أو تفقده عقله فإنّه يحضّرها لهم مقابل المال.
إنّه يداوي آلامهم في موضع فيمرض موضعا آخر، لأنّه دجّال وليس حكيما. الحكيم يعمل على الشفاء بإحلال التوازن في البدن. لكن -والحقّ يقال- إنّ أبدان هؤلاء الناس بامتداداتها المتهدّلة تحيّر أنبه الحكماء وتصيّره عاجزا. وإذا كانت شربتي الشافية محدودة التأثير عليهم فالعيب في أبدانهم وليس فيها.
أدار الجار امتداداته وطوّق بها حبيبتي، بدت جذلى وتضوّعت بالعطر كما كانت تفعل في لقاءاتنا القديمة في مراعي الديار. 

في الأصيل أحبّ أن أتمشّى قليلا مع فرسي، أمرّ حيث تسكن أثافي. غير بعيد عن بيتها ثمّة جدول أسقي منه فرسي، وأقف قليلا تحت أشجار الرمّان، أتأمّل حبيبتي الجالسة بالشرفة تغزل خيوط الحرير وتنسجها بالنول. ربّما تبادلنا الحديث قليلا، وغالبا ما أكتفي بمراقبتها صامتا.
حجر أصاب جبين فرسي فشجّها، لقد كان (أطفال) الجار يتبادلون مع القرود رمي الحجارة. صحتُ بهم فهرعتْ والدتهم وأدخلتهم إلى البيت. غمستُ قطعة قماش بماء الجدول ونظّفت جرح فرسي. كانت رابضة مستكينة، (لقد غابت الشمس، هل يمكنكِ السير؟) قالت: (لنمكث قليلا). أسندتُ ظهري إليها وحدّقت في الأفق، كانت الأشجار تحجب منظر الغروب، تأمّلت القرود الآوية لنومها وقلت لفرسي: ما أشبه هذه الكائنات بالإنسان! 
  • أنا يدهشني شبهه بالأشجار. انظر إلى جذوع الشجر لا تهتزّ للريح، وانظر لفروعها كيف تضطرب وتتمايل كلّما هبّت نسمة. انظر للجذع لا يتغيّر بمرور الفصول، وانظر ماذا تفعل تغيّرات الأجواء بأغصانها!
قالت: (أطفال الجار رموني بالحجر متعمّدين). تأمّلتها بعطف (ولماذا سيريدون إيذاءك؟) 
  • لأنّ والدهم يكرهك.
  • تقصدين أنّ الجار أمرهم بذلك؟
  • هل رأيتَ كيف رمقتك زوجته شزرا؟
  • ربّما لأنّي صحتُ بأطفالها.
  • كان عليها أن تعتذر على سوء تصرّف أولادها وتؤدّبهم.
  • الناس كجذوع الأشجار، لا يمكنك أن تعرف ما بداخلهم من مشاعر ونوايا وأفكار، إن أردتَ معرفة ما يخفونه راقب امتداداتهم، فهي أكثر حساسية، واستجابتها للمؤثّرات أعلى.
(ألا ترغب بأن يكون لك أولاد؟)
  • لماذا؟! ألا يكفيني عبء هذا؟ (وأرجحتُ امتداداتي المتهدّلة ساخرا).

  • الامتدادات ليست عبئا، إنّها وسيلتك لتحقيق إرادتك. واقعك تغيّر يا نسر! أليس عليك تقبّل ذلك؟

  • أليس ثمّة طريقة لمغادرة هذا المكان؟

  • طريقة واحدة فقط. أن ينطفئ نورك وتتحلّل.

  • منذ وصلتُ إلى هذه الأرض وأنا أتحلّل بالفعل.

  • تريد أن ترحل وتترك أثافي؟

  • يبدو أنّها تفضّل البقاء.

  • هي تتكيّف مع واقعها الجديد.

  • لا يبدو أنّها تشتاق إلى الديار. ولا إليّ.

  • أسعدها!

  • لا أعرف ما يجب عليّ فعله لتعود كما كانت.

حثثتُ فرسي على النهوض، مشينا تحت أشجار الرمّان ونحن نتحاشى تشابك امتداداتها بامتداداتنا، على ضفّة الجدول رأيتُ الجار الكهل مستلقيا وأثافي تستند إليه كما كنتُ قبل قليل أستند على فرسي.
جاءت لزيارتي بعد أن انقطعتُ لأيام عن زيارتها، جاءت بمفردها هذه المرّة، قالت بأنها قلقت عليّ. كانت قد رأتني تلك الليلة، وتعلم بأنّي رأيتهما، لكنّها لم تعتذر، ولم تفسّر شيئا.
حين ودّعتني خارجة قلت لها: (الجار لا يحبّك. إنّه يريد جعلك دهليزا لامتدادته)، قالت: (سيكونون صغاري أيضا).
  • تتكلّمين مثلهم وأنتِ تعرفين جيّدا بأنّهم ليسوا صغارا بل بعيدين.
  • أنت يا قلبي لا تفهم، هذا لأنّك كفيف يا روحي. لماذا لا تسمع كلامي وتأتي معي إلى الصيدلانيّ؟
  • حبيبتي ما بك!؟ منذ متى هؤلاء يفهمون شيئا؟ هل نسيتِ عندما كانوا يقدّمون لنا القرابين لنغيّر أقدارهم؟ كيف تسمحين لحمقى مثلهم بأن يتحكّموا بك؟

    في هذه الأرض يحصل الناس على ما يريدون بالسطو. بعض الأشياء تكون بلا حارس فيستولون عليها، وبعضها يحتاجون إلى طلبها من مالكها أو مقايضتها. لكنّهم عاجزين عن صنع شيء، هم يحوّرون الأشياء ويتلاعبون بها فحسب. لا أتحدّث فقط عن كماليّاتهم التي يبالغون في إحاطة أنفسهم بها، بل حتّى ضروريّات حياتهم كالغذاء. هذا العجز هو مادّتهم الأصليّة، لذلك هم في جوع دائم، وحرص وترصّد دائم للاقتناص.
    جار حبيبتي قنّاص خطِر، شديد اليقظة شديد الشراهة، يسمونه الصيّاد، لأنّه يمتهن اقتناص حيوات الكائنات التي لا تعقل، لكنّهم لا يرون أنّه يقتنص كلّ شيء. رأيتُه مرّة يترصّد صبيّا يتقافز مثل قرد، رأيتُه يتلمّظ على طاقته الفائضة، ودون أن يصوّب نحوه سهما كما يصطاد الغزلان، ولا رمحا كما يختلس الأسماك، صوّب نحوه طمعه وشراهته فصرعه أرضا واختلس قوّته. لم يعلم أحد بحقيقة ما جرى للصبي، ولا بجريمة القنّاص الشرير.

    كلّما مرّ القنّاص بقربي تصيبني رعدة، الصيدلانيّ فطن لاضطرابي، قال بصوت يتموّج بالسخرية: (إنّه قويّ القلب). طريقتهم في التعبير في غاية البلادة، هو قصد القول بأنّه يختزن قدْرا هائلا من الطاقة. وما العجب إن كان قنّاصا شرها مهووسا باختلاس الحياة بكلّ أشكالها!
    لكن الذي أراه بحكمتي ولا يراه الصيدلانيّ الحذِق هو أنّ كيان القنّاص ملوّث بالعناصر الفاسدة، إنّ الناس في حمّى جوعهم لا يفطنون بأنّ الحياة التي يستولون عليها يجب أن تُستهلك بقدْر، لأنّ الحياة التي لا تُصنع في الداخل لا تكون نقيّة، إنّها تدخل إلى أبدانهم محمّلة ببذور العطب، وهذا الصيّاد الجبّار موعود بالعطب السريع.
    قال لي الصيدلانيّ: (سأعلّمك أحد القوانين النافعة. توجد طريقتان لتهزم عدوّك: إمّا ترديه وتختلس قوّته، وإمّا أن تحاكيه وتتفوّق عليه). أجبته: (يا لها من نصيحة تستحقّ جائزة! سأشتري منك جرعة قاتلة وأهديك إياها). ارتجّ الصيدلانيّ بصخب وقال: (ما أظرفك!). ثم أردف: إذا كان من يعرف سرّ الغبار الاكسيريّ حكيما فإنّ من يعرف سرّ خواصّ العناصر حكيم كذلك.
  • أنت تعرف بأنّ تعلّم قوانين المستوى الرابع معرفة محرّمة، وممارستها من السحر.
  • ألا تريد أن تستعيد حبيبتك؟
  •  بتقليد موقد الجمر والرماد هذا؟!! لا!!
  • تعال معي، أمّا أنا فسأهديك دواء يجعلك مبصرا. لكن شرف المهنة يحتّم عليّ إخبارك بأنّك لم تصب بالعمى جزافا، كانت هذه ردّة فعل دفاعيّة. ربّما لا يناسبك أن ترى، ربّما لا تقوى على انكشاف سوأتك.
  • إن كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لاستعادة أثافي فأنا أفعل أيّ شيء لنعود متفاهمين كما كنّا.

    لا أرى شيئا، أشعر بحرقة، والظلام يحيط بي. قال لي الصيدلانيّ: (هل تفضّل أن تبقى هنا لترتاح أم أوصلك إلى البيت؟)
  • سأذهب بمفردي.
  • مازال إبصارك مشوّشا.
  • أعرف الطريق. شكرا لك.
الرفوف! لماذا تبدو كامدة؟ حقق الأدوية أشكالها غريبة جدا. لم أهتد إلى طريق الخروج. (الباب من هنا) التفتُّ نحوه فأفزعتني هيأته. لم أعرف إلى ماذا يشير، لكنّي اتّجهت إلى حيث يصوّب ذراعه. عبرتُ خلال كوّة يتدفق منها ضوء باهر، زاد من شعوري بالحرقة، وعمّ الظلام ثانية. النور والظلام يتبادلان في وميض متقطّع. ثمّة صور عجيبة لم أرها من قبل، (أيّ مكان هذا؟ ماذا صنع بي هذا الدجّال؟!). اقترب مني كيان ضخم بدا مثل بقعة مظلمة وسط الضياء، له صوت فرسي وله هيأة مختلفة. تطامن لي فعلوته، سار بي وسط فضاء غريب، وبدأ يسمّي لي الأشياء، قال: هذا جبل، وهذا نهر، وهذه شجرة .. ، كان الجبل لا يشبه الجبل، وكان النهر بسيطا حدّ السذاجة، وكانت الشجرة مثل مزحة. أوّل ما وعيتُه هو أنّ ما حولي مصنوع من مادّة واحدة كثيفة وباردة ومظلمة، كان كلّ شيء كامدا. 
أقبل صوبي كيان مصنوع من ذات العنصر الكمد، كان له جذع كجذع الشجرة الساخرة، وله أربعة أطراف مثل فروعها، الفرق أن الشجرة لا تمشي، وهذا الكيان يتهادى بشكل مثير للأسى. في قمّة الجذع مثل ثمرة مغطاة بعشب مموّج. كان كيانا مريعا، مدّ نحوي طرفيه العلويّين فوجدتها تتفرع إلى عشرة أغصان ليّنة، طوّقني بها وقال: (ما أجمل عيناك يا قلبي!)، كان لهذا الكيان الكريه صوت حبيبتي. 
في كابوسي المرعب هذا ساعدتني أثافي المزحة على النزول من على ظهر فرسي المزحة، ومشينا بين أشجار الرمّان، الرمّان الذي يشبه قمّة جذع حبيبتي الغريبة. جلسنا على ضفّة النهر، وأسندتْ جذعها إليّ، كان جذعها -على عكس ما بدا لي- ليّنا دافئا. في وسط رمّانتها بركتا ماء، وجبل مؤسف، وزهرة حمراء نديّة، والكثير من التضاريس التي أجهدني تتبّع انحناءاتها. أردتُ أن يعمّ الظلام من جديد، الظلام الذي باغتني في معمل الصيدلانيّ الدجّال، أردتُ أن تعود الأشياء كما كانت، أن ترجع حبيبتي نافورة راقصة بلهاء. 
مدّت أثافي فروعها الدافئة الغضّة فحجبتْ بها الصور كلّها. ثمّ أبعدتْها وعاد كلّ شيء للظهور، كانت أصابعها مبلّلة بالماء. قالت: (لا تبكِ يا روحي، انظر ما أجملك!) نظرتُ إلى حيث تشير، وجدتُ أثافي أخرى تتراقص على صفحة الجدول، يبدو أنّه طيف حبيبتي، وإلى جانبه طيف آخر مهول المنظر. 
أخرجت من عِطْفها صفحة صافية، وقالت: (انظر ما أجملك!). أردتُ أن أصرخ: أنا لست هذا الشيء، أنا لست مبعثرا هكذا، لست مظلما، لست كمدا، هذا الشيء ليس أنا. لكنّي لم أقدر على الصراخ. كانت أطراف حبيبتي الليّنة تمرّ بخفّة على تلك التفاصيل الكثيرة الكثيرة المرهِقة، وتهمس بصوت عذب: (انظر كم نحن متشابهان! ولكن مختلفين في آن! أليس هذا جميلا!! ألا تلاحظ أنّني أصغر منك قليلا، مع أنّي لست بعيدة، أنا ملتصقة بك، هل فهمتَ الآن ما معنى أطفال صغار؟) بدأ كمودها يخفت، وبدت لي مشعّة قليلا، لقد كنتُ مخطئا، ليس في وجهها بركتا ماء بل نجمان زهراوان، أظنّ أنّني وجدتُ حبيبتي التي أضعتُها.
  • حنككَ أعرض من حنكي وأكثر بروزا، وهذا يعجبني جدّا ( في المرآة شاهدتُ أطرافها الليّنة تهبط) أرأيت هذا البروز؟ أحبّه جدّا، وليس عندي مثله، يسمّونه تفاحة آدم.
الجو تغيّر، أظنّ أنّ عاصفة قادمة، علينا أن نحتمي منها بكهف قريب. سكون مخيف خيّم على المكان، لا حفيف شجر، لا خرير جدول، لا زقزقة عصفور، ولا دبيب حشرة!! موجة هواء حارّ لفحتنا، احمرّت وجنتا حبيبتي وتطاير شعرها، كيف أحميها؟ أفعى ناريّة العينين تنسرب نحونا كسهم، كيف أحميها؟ أناديها فتنظر إليّ ولا تعي تحذيراتي، كأنّها متجمّدة داخل زمن زجاجيّ، في عينيها ذهول ووله، ولا ترى ما أرى. وحدي أسمع فحيح الأفعى: 
  • سيخطفها منك القنّاص.
  • سأهرب بها إلى أرض بعيدة.
  • هذه أرض لا يمكن الرحيل عنها. يتخاصم فيها الحبيبان ويفترقان ولا يمكنهما الفرار من بعضهما. يلتقيان فيحيّي أحدهما الآخر ويبتسم، وفي خياله يحرقه وينسفه، يسكنان بيتين منفصلين وبينهما جدار مشترك. سيأخذها منك الجار، ستصبح حقله الثاني، ينثر فيها بذوره ويغزوها بامتداداته.
صرخت: لن أترك حبيبتي لذلك المترمّد الكريه. سأحيطها بامتداداتي وألقي بها بذور حكمتي، سأولدها عشرة ذكور وسبع إناث، ستكون بهم وبينهم ملكة، سأحقّق بهم إرادتي، سيحمونها ويحبّوها، وينجحون فيما فشلتُ فيه. سيبقون في هذه الأرض بعد رحيلي، وتكون لهم قلوب هشّة كقلوب الناس يحبّون بها أمّهم، وعيون عمشاء دامعة تراها جميلة رغم جبلها المضحك وسعفها الرهيب ومشيتها المتأرجحة الثقيلة. سيرونها جميلة لأنّهم لم يروها بصورتها الأكمل كما عشقتُها.
ستحبّهم كما أحبّتني، وستراني كلّما نظرتْ إليهم، أعلم أنّ بقاءها في هذه الأرض سيطول. لن تتحلّل سريعا مثلي، ستغزل سنيّ عمرها بصبر وأناة، وتقاوم الانطفاء. أمّا أنا فسأسبقها إلى الديار وأنتظر عودتها إليّ، لقد تسارع تحلّلي بعد أن ألقيتُ بذوري، أنا ذكر نحل، ووظيفتي انتهت.

الجمعة، 30 نوفمبر 2018

برامج بدائيّة (قصّة)

هديّة والدِي بمناسبة عيد ميلادي السابع كانت مميّزة. وهي عبارة عن ألبوم بتجليد فاخر، وورق مقوّى صقيل بألوان برّاقة. فيه رسوم وكتابات بجانب كلّ منها ثقب، وموصول بالألبوم سلكان بقطبين كهربائيّين وبطاريّة. في الصفحة الأولى توجد صور أزهار مع أسمائها موزّعة بشكل عشوائيّ، إذا وضعتَ القطب الأوّل على الصورة والقطب الثاني على اسمها الصحيح ستصدر نغمة جميلة منتظمة، وإذا كان الاسم خطأ ستصدر نغمة ناشزة. بقيتُ مستمتعة باللعبة إلى أن اكتشفتُ بأنّ كلّ الصفحات تخضع لنفس الترتيب، سواء كانت الصفحة جدول ضرب أو أسماء زهور أو أحجار كريمة؛ دائما الثقب الأوّل على اليمين يتوافق مع الثقب الثالث قبل الأخير، وهكذا.. بمجرّد اكتشافي لذلك فقدتْ اللعبة في نظري سحرها، ولكي أثبت صحّة اكتشافي قمتُ بتمزيق جميع صفحات الألبوم وأبقيت على الثقوب المعدنيّة والأقطاب فقط. وبالفعل وجدتُ الثقوب المتوافقة والتي حفظتُ نسقها تعطي نغمة منتظمة. إذن فلم تكن لعبة ذكيّة، كانت بدائيّة للغاية، لكنّها تعتمد آليّة الإلهاء والتشتيت بالصور الجميلة والورق الملوّن اللمّاع.
تعلّمتُ من هذه اللعبة ممارسة تقشير الحياة؛ أنزع أوراقها الملوّنة البرّاقة وأجرّدها من سحرها الكاذب، لأصل إلى برامجها البدائيّة.
مثلا المتقدّم للوظيفة الذي يستعرض في سيرته الذاتيّة أتفه المهارات ويرفق معها شهادات لدورات وكورسات بلا قيمة لا أجد فرقا بينه وبين فاشينيستا تستعرض ملابسها ومساحيقها، فبعد تقشير العناوين نصل إلى برنامج واحد اسمه تسويق الذات.
أحيانا وبلا قصد منّي أقشّر عناوين لا يجب تقشيرها، وأفسد على نفسي كلّ شيء. مثلا (الملّا) الذي يستعمل كلّ طبقات صوته صاعدا نازلا في المقامات، ماخرا عباب التاريخ والأسطورة والحقيقة والكذب، متحكّما باقتدار في الجمهور المستسلم لبراعته؛ ماذا يفعل في الواقع سوى مساعدة الناس على التعبير عن غرائزهم البدائيّة، ثمّ يخرجون من عنده خفافا محلّقين!

بعد أن قشّرت الكثير من المواقف والأحداث والصور والكلمات والألقاب والعناوين توصّلتُ إلى أنّ ما يتحكّم في حياتنا بضعة برامج بدائيّة معدودة.
صحيح أنّ البرامج في جوهرها كلّها بدائية، لكن يبقى لكلّ قطاع زمنيّ برامجه المميّزة. ويبدو أنّ معضلتي أنّي ولِدتُ في زمن برامجه لا توافق برمجتي.
أحد أسوأ البرامج السائدة في زمني هي قلب الأمور رأسا على عقب، فالناس يميلون إلى تحويل النتائج إلى مقدّمات، والمسبَّبات إلى علل، مثلا زميلتاي في العمل تعتقدان أنّهما ستصلان إلى النجاح والثراء بمجرد الوثوق باستحقاقهما ذلك. ولا فائدة من محاولة إقناعهما بوجود شروط للنجاح اسمها المؤهّلات والموهبة، وأنّ عليهما أن تكونا في المكان المناسب. الناس في زمني لا يفهمون بأنّ الأوهام والخيالات لا تصنع واقعا. أنا تعلّمت ذلك من التجربة

في صباي كنتُ مأخوذة بعنوان الشهادة، أتابع على فضائيّة المنار الوثائقيّات التي تحكي عن الشهداء وأسَرهم؛ كيف كان الشهيد يعيش ويفكّر ويشعر ويتعامل مع من حوله، كان حلمي أن أكون ابنة شهيد تعيش ذكرى والدها الفدائيّ، ترعاها روحه الحيّة وتمدّها بالتوفيق والطاقة والأمل. لم ألتفت بأنّي أعيش في مجتمع أبعد ما يكون عن معاني الجهاد والشهادة، مجتمع يؤثر السلامة، وأوّل أولويّاته الرخاء ورغد العيش حتى لو دفع الثمن من كرامته وحرّيّته، وأنّ مجتمعا لم يعرف بعد كيف يتهجّى أبجديّات الحراك المطلبيّ ولم يجرّب أن يتظاهر أو يعتصم لن يقفز فجأة وبلا مقدّمات إلى مرحلة الاستشهاد.  

عندما أتذكّر كم كنتُ أسيرة أوهامي وخيالاتي أعذر زميلتي نهى قليلا، وأغفر لها استغراقها في أحلامها البلهاء. كلّ يوم بعد انتهاء العمل أتماسك وأُحكم رباط جأشي استعدادا لسماع سرديّاتها المخبولة عن نصف الزبائن الذين فقدوا اتّزانهم أمام جمال عينيها، وعن محاولات بعضهم الحصول على معلوماتها الشخصيّة ليتقدّموا لخطبتها. بالنسبة لي تبدو عيون نهى كعيون طفل رضيع، تشعّ بدهشة خام، ليست دهشة ذكاء أو اكتشاف، وإنّما دهشة كائن لا يفهم أيّ شيء. حتّى ابتسامتها الرقيقة وملامحها الجميلة لا تقول لي سوى شيئا واحدا: أنا لا أفهم شيئا. هل يعقل أنّ الرجال يرون في ملامحها شيئا مختلفا؟ 
لكنّي على أيّة حال ألتمس لها العذر  على خيالاتها لأنّها أصغرنا سنّا وأكثرنا رومانسيّة وأقلّنا ذكاء.
لكن كيف أصبر على خيالات كلثم وأوهامها؟ 

لم أكتشف فداحة توهّمها إلّا حين سمعتها تحكي لنهى عن الزفاف الذي حضرتُه معها في ليلة سابقة. صعقتُ من التباين الحادّ بين ما ترويه وبين ما حدث فعلا. كانت ليلة عاديّة جدّا ومملّة، ليس صحيحا أنّ الناس استقبلونا بحفاوة وتسابقوا للسلام علينا وأنّنا كنّا نجوم الحفل! لم يحدث مطلقا أنّهم تنازعوا على إجلاسنا بجوارهم، ما حصل هو أنّنا وصلنا متأخرين، ولم نجد طاولة فارغة، ووجدنا مكانا على أريكة جانبيّة يبدو أنّه فرغ للتوّ، وحين أقبلنا من بعيد كانت هناك امرأتان جالستان فأفسحتْ كلّ واحدة منهما مكانا بجانبها ودعتنا للجلوس، وأصرّتا قليلا من باب المجاملة. لكنّي أبدا لا أجادل كلثم، أكتفي بالدهشة من طريقة عمل دماغها، وأصبر على التوابل الحارقة التي ترشّها على قلبي كلّما تكلّمتْ. فما جدوى مجادلتها إذا كانت واثقة كلّ الثقة من أوهامها، ثمّ هل يبقى الوهم وهما إذا كان صاحبه يعيشه كحقيقة مطلقة؟ 

نهى لم تحضر اليوم إلى العمل، طلبت إجازة.
قبل أسبوعين جاء شاب ليستبدل بلوزة كان قد اشتراها لخطيبته، ولأنّه أضاع الفاتورة اعتذرتُ عن خدمته. كان ضحوكا ويفيض حيويّة، ترجّاني بلطف وقال إنّ طائرته ستقلع ولا وقت لديه. نهى ذات القلب الرقيق أحضرتْ له بلوزة أخرى بالمقاس المطلوب، وبينما الشاب المتعجّل يتناولها بحماس اشتبكت علّاقة الملابس بسوار نهى فانقطع، تفاجأ الشاب عندما رآها تبكي، طبعا أنا وكلثم لم نكن لنتفاجأ، فالبكاء هو طريقة نهى لتقول أنا متأثّرة
ما رأيتُه بعينيّ هو أنّ الشاب كان خجِلا وعرض أن يدفع قيمة إصلاح السوار، لكنّ نهى ابتسمت وسط دموعها وقالت لا داع. اعتذر منها الشاب مجدّدا وذهب سريعا حتّى لا يفوّت رحلته
لكنّ نهى عندما روت القصّة لكلثم قالت بأنّ الشاب وعدها أن يعوّضها بسوار جديد! لا أدري هل تتعمّد الكذب أم أنّها تتخيّل أشياء لم تحصل. كلّ ما حدث جرى أمام عينيّ ولم أسمعه يقول بأنّه سيعوّضها عن السوار.
نهى في إجازة لأنّ ذلك الشاب أجّل سفره وانفصل عن خطيبته وسيزورهم هو ووالدته اليوم.

يبدو أنّ البشر في زمني متوافقون مع برامجهم وأنّني أنا الوحيدة التي تشكو من سوء البرمجة.


كلثم مشغولة عن الزبائن برسائل الواتساب المحمومة الفارغة التي لا تتوقّف، نظرتْ في عينيّ صامتة ثم أجهشتْ بالبكاء واحتضنتني: (مسجد حيّكم فجّره الإرهابيّون .. والدك استشهد).