الأحد، 14 مارس 2021

أشرُقُ بالذكرى




بحفاوةٍ أستقبِلُ الفجرَ، أفتحُ له النوافذَ وأزيحُ الستائرَ وأطفيءُ المصابيح. نورُ ما قبلَ الشروقِ بهجةٌ صِرفة، لا ينبغي أن تخالطها مؤثّراتٌ أخرى. يتردّد في خلدي بيتُ شعرٍ قرأتُه البارحة في تويتر: "أسَفي على البيتِ الذي ناديتُه من فرطِ وحشاتِ الملاجئِ منزلي". يقولون أن الميّت إذا ضغطه القبر يسيلُ حليبُ أمّه من منخريه. هذا يعني أن ما يدخلنا لا يخرج، وإنْ خيّل إلينا أننا ننسى ونتجاوز ونتعافى. تمتمتُ: "أسفي على البيت الذي..." وشرقتُ بِريقي. انبجسَ الماءُ الغائرُ في شقوقِ الذاكرة، وطما فسدّ عليّ منافذ النفَس. عدتُ طفلةً أمسكُ بيدِ أختي في عين (الخَدود)، الأطفالُ الصاخبون يقفزون في الماء، النساءُ على الضفافِ يدعكن أجسامَهن بالسدرِ والصابون. 
طفلةً في الرابعةِ شديدة التعلّقِ بأختِها الكبرى التي خطفَها ابنُ العمّ، ذهبَ بها إلى بيتِه البعيدِ لتسكنَ وحيدة. طفلةً قليلةَ الكلام، لا تعرفُ الطريقَ إلى بيتِ أختِها على بُعد حارتين، لا تبكي، لا تسألُ، لا تشكو؛ لكن الشوقَ يحيّرُ لبّها. في المنامِ رأيتُ أختي عادت إلينا، وأنا ألاحقها حيثما ذهبتْ وأطوفُ حولَها، لكنها تصدّني وتعبس، ثمّ صاحت في وجهي ودفعتْني بعيدا. أفزعني الحلمُ وذهبتُ أبحثُ عن أمّي فوجدتُها في المطبخ، إخوتي السبعة نائمون، وهي مشغولةٌ بإعدادِ العصيدةِ للإفطار، قصصتُ عليها الحلمَ باكيةً، لم تنظرْ إليّ، قالت وهي تصبُّ الماءَ المغليَّ على السكّرِ المعقود: "تفسيرُ حلمك أن أختَك مشتاقةٌ إليك"، طشّ الماءُ في القدرِ الساخنِ وارتفعتْ غيمةٌ بخارٍ كثيف، وأكملتْ: "الأحلامُ تفسّر بعكسِها".
صدقَ حلمي وجاءت أختي لزيارتنا، تعلّقتُ بها لتأخذني معها، كانت ذاهبة لتستحمّ في العين، وسمحتْ لي أمّي بمرافقتها.
أنظرُ بوجلٍ إلى الماءِ العميقِ المخضرِّ بتأثيرِ الطحالب -الطحالب الكريهة التي ستلازم كوابيسي- وأفكّرُ بالحراسين التي أخبرني أخي أنها تعضُّ الأصابعَ وتأكلُ الجروح. ألوذُ بالحافّة وأحدّقُ في السورِ الصخريّ شديدِ الانحدار يحيطُ بنا مثل مصيدةٍ محكمة. دعكتْ أختي شعري بشامبو له رائحةُ النُقْلِ المُرّة، وبحركةٍ سريعةٍ خرقاء دفعتْ رأسي براحةِ يدِها وغمرتْني في الماء، دخل الماء إلى حلقي ومنخريّ مشبعا برائحةِ الطحالب والمذاقِ المُرّ للشامبو، أخرجتُ رأسي وأنا أشرُقُ وأكحُّ وأفرُكُ جفوني المحترقة، غضبتُ من أختي التي أرادتْ أن تغرقَني، لم أعدْ أشتاقُ إليها وأنتظرُها،...  الأحلامُ تفسّر بعكسها.