الاثنين، 2 يوليو 2012

التمرّن على الموت (1) ... الزمن


الساعة لا تعرف الوقت، إنها آلة معطوبة، تفقد ذاكرتها كلّ نصف يوم وتعود القهقري. الروزنامه أيضا عرّافة محتالة، لا تعرف إلا العدّ حتّى الرقم 12، ولا تعرف ما هو العدد الذي يليه. لهذا كان عليّ أن أدبّر طريقة لقراءة الزمن، فتعلّمت الإصغاء إلى الأشياء.

الزمن له ثقل، هكذا تخبرني الأشياء، أسمع المنضدة تتأوّه تحت ثقله، وتندّ عنها مسحة غبار. زوايا البيت ترتسم على جبينها تجاعيد نسيج العناكب، دبيب أرجل الحشرات وحفيف أجنحتها.. ظلالها الخاطفة.. شكوى مستمرّة من ثقل الزمن، وعليّ أنا القائمة على هذا المكان مهمّة مواساة الأشياء، لتحتمل وطأته.

شيء ما فيّ يهبها الحياة، فلا تعود الأشياء لسكينتها حتّى أمسح بيدي على كلّ عضو في جسد المكان: تمسيدا ورتقا ونفضا وطيّا وبسطا.. هذا ما أتقنه. أخبر المكان أن لا يستسلم للوهم، أقول للجدار هذا الذي على جبينك ليس شرخا، وللسجّادة أقول أمسكي خيوطك ولا تتركي الهلع يفتّتك، أقول للباب هذه الحشرجة ليست صوتك، إنه الزمن، هو من يفعل هذا بكم.
الفرق بيني وبين أمّي أنها كانت تفعل هذا بحبّ، وأنا أشعر أنها مسؤوليّة، الأشياء تشعر بجفائي وتنتقم منّي في الخفاء.

ولأنّي أغيب كثيرا، ولا أشعر بالزمن، ولأنّي لا أحتفظ بساعة ولا روزنامه، تضطرّ الأشياء لتتثاءب وتسعل وتتململ لأشعر بها.
لا أتوقّف عن التفكير في الهروب، والعودة إلى البيت، هناك حيث المكان تحبّه أمّي وتحميه من الزمن.
هي أيضا تريدني أن أعود، لكن بطريقتها، وأنا بنت عنيدة، أخبرتْني أن لا ألقي بالحصى على طول الطريق لأرسم خطّ العودة، قالت لي لا تصدّقي الحكايا، هذه الطريقة لا تنفع.

قالت أنّ الطريقة في عالم الحقيقة أن تعفي آثار أقدامك، وأن تيمّم نحو الضياع لتجد الطريق.
قالت إنّ بنتا مثلي لا بدّ أن تعود، لأنّها لا تهزم الحنين، أخبرتني أنّني مصابة بعلّة السهو والنسيان، وأن هذا يعني أنّني أينما توجّهت سينخر الزمن وجهتي، وسأتسرّب عبر الثقوب وأعود إليها، لكنّي لا أصغي، وأملأ ثقوب المكان بالعلكة.

مضغ اللبان ليس حيلتي الوحيدة، أنا ماهرة في الحيل الصبيانيّة، أعرف كيف أحرّف الأشياء وأغيظها وأشمت بها، أعتبر هذا إبداعا، وتعتبره أمّي سوء أدب.

هناك أكثر من طريقة لإنجاز الأشياء، لكنّ أمّي لا تصدّق ذلك، وتصرّ على إنجاز الأشياء بطريقة واحدة، هي طريقتها.
أنا الآن في منفاي أعيش كما يحلو لي، أنا سيّدة المكان، وعلى جميع الأشياء أن تذعن لطريقتي.

أكره هذا المكان لأنّه دائم الضجيج والشكوى، ولأنّه يحسبني ناضجة وقادرة على تربيته. صدقا أنا أعرف الطريقة الصحيحة لإنجاز كلّ شيء، أتقن الوصفة السحرية جيّدا لكنّي أميل للابتكار!

مثلا توجد طريقتان لمناورة الزمن –أمّي لا تعرف إلّا واحدة- الأولى أن تتعامل معه كتيّار وتسبح حيثما يحملك –وتلك طريقتها- والثانية أن تعانده وتقف له بالمرصاد –أفضّل هذه الطريقة- وطبعا سأتحمّل تبعاتها، كلّ الطرق لها تبعاتها.

ولهذا ينتقم منّي الزمن، ويرسل كائناته لإزعاجي. لكنّي لا آبه به ولا بكائناته، أينما اختبأ وجدته بيسر ودون أن ألتفت حتّى، أعرفه منذ النظرة الأولى ولو لبس ألف قناع.

رائحة نفَسه تنبعث من بقايا الطعام، من الأواني غير المغسولة، من الملابس المنقوعة في الحوض، آثار أظافره على أسطح الأثاث، أنظر بازدراء لأسراب النمل وأعرف أنّها رسله لإزعاجي.

هذا المعتوه المغرور يعاملنا مثل ربّ عمل لا يرحم، يحاصرنا بالكثير من الأعمال ولا يمنحنا إلا القليل من الوقت، وبهذا يضمن أنّ النقود التي تخرج من جيبه لا تدخل جيوب خصومه، بل جيوب عبيده.

أخبرني ما هو أفظع ما يمكن أن تفعله بمن يعتقد أنّه سيّدك؟
ازدراؤه طبعا.. تغيظه وتشمت به.

صحيح أنّك تتصدّع مثل جدار مشروخ، وتنحلّ قواك مثل خيوط سجّادة مهترئة، وتدبّ كائنات خفيّة في رأسك وعلى جسدك مثلما تفعل الحشرات في كوابيسك ويقظتك، لكنّك حين تسقط في النهاية تكون قد قاومت الزمن ببسالة، ونلت شرف الحياة بحريّة.