الاثنين، 25 نوفمبر 2019

الاختباء في الشقوق

إذا كنتِ ممّن يظنّون أن معرفة الله تطلَب في بطون المجلّدات، وأن الأتقياء هم رجال الدين، فستغيّرين رأيكِ مثلي إذا نظرتِ أبعد من أنفك.

فمنذ عرفتُ هذا الإنسان آمنتُ بأن الآلهة تعيش معنا على الأرض، تسكن في الشقوق المهملة الرطبة بعيدا عن الأضواء. 

إنه يرخي شعره مثل الفلاسفة، وملابسه التي يصفها الآخرون بالرثّة أراها مثل أردية آلهة الأولمب وملائكة الرسّامين الإيرانيّين.

تخيلي لو لم يكن مدخّنا شرها، كيف كانت ستكتمل صورة الحكيم الذي ينفث همومه على شكل دخان. 

أنتِ تريني ساذجة، لكن ماذا عن أبي الذي وثق به وسمح لي بالذهاب إلى بيته ليشرح لي مادّة الفيزياء.

ماذا عن زوجته التي تتركنا بمفردنا دائما، وتغادر البيت أحيانا لبعض شؤونها واثقة كلّ الثقة من استقامته.

أنا متأكّدة أنه ليس رجلا عاديّا، ليس مخلوقا من طين مثلنا، ربّما هو منحوت من رخام، أو مسبوك من معدن هبط من الفضاء.

انفعالاته لا تشبه انفعالاتنا، لا شيء يثير اهتمامه، وإن كان يهتمّ فهذا لا يظهر عليه البتّة. لم يضحك ولا مرّة على نكاتي التي أنتقيها له بعناية، لكنه أيضا لا يزجرني ولا يشعرني بتفاهتي، يبقى صامتا يتأمّلني وشبح ابتسامة ألمحها تختبئ خلف ستائر ملامحه الجادّة.

لكنه يبتسم أحيانا، ويضحك ضحكة قصيرة جدا إذا أجبتُ إجابة غبيّة تكشف أن تعبه معي غير مجد، وحين يبتسم ابتسامته الصافية تلك أعبُر أنا حالات المادّة الثلاث خلال ٣ ثوان.  

الجمعة عندما صادفناه مع زوجته في المول، راقبتُه كيف يسير متوحّدا مع أفكاره، وكيف يطيل النظر داخل فنجان قهوته، وينظر أحيانا في وجه زوجته، لم يكن يلتفت إلى أيّ امرأة غيرها. 

لا أعرف كيف لا ترون مثلي أنه قدّيس حقيقيّ، أنتِ وزينب ونورة هزئتم بي لأني كنتُ أراقبه طوال الوقت، ضحكتم على رداءة ذوقي، وقلتم أنه أكبر سنّا ممّا تخيّلتم، وأنه رثّ الهيئة. 

أنا متأكّدة أنه بنظرة واحدة نفذ إلى داخل ضمائركم ورأى أفكاركم المخجلة، لكنه يقابل إساءتكم بالإحسان. شعرتُ بالحرج اليوم لأنه امتدح أدبكن وتربيتكن، وقال أن بإمكاني دعوة إحداكن معي إذا كانت بحاجة إلى مساعدة في دروسها، الأغلب أنه كان يقصدكِ أنتِ، قال: "صديقتك ذات البشرة البيضاء الناعمة والقوام الممتليء لماذا لا تحضرينها معك"؟ 

الأربعاء، 1 مايو 2019

أتمرّن على الموت





تسألُني بماذا أفكّر؟

هي هي ذات الفكرةِ التي تشتعلُ بقلبي منذُ أربعِ سنين. كفتيلٍ يوقدُ سهري ويُنضج وَجدي .. وتسيرُ بي باتجاهِ صيرورةِ الرماد...

أفكّرُ كيف -يا شاهين أمِّك- أبعدتَ أخاك الصقرَ عن صيدِه الجبان، بعد أن ظفرَ به وأحكمَ فيه مخالبَه، كيف أقنعتَه بالابتعاد؛ فيسلم جسدُه ولا يبقى لك جسد؟

أحقا كنتَ طامحا لمجدِ الخلود؟
قلبي يسائلُك فأجبه: هل كنتَ تراقبُ الخلودَ أم تراقبُ أخاك الأصغر؟
هل كنتَ تراقبُ أخاك الأصغرَ أم تراقبُ قلبَ أمِّك؛ وتحرسُه من الثُكْل؟

كلَّما رأيتُ أمَّك.. وافتقادَها لكَ في كلِّ لحظة؛ أفكّر أنّكَ رحلتَ من أجلِها.

ما كنتَ لتحتمل نظرةَ الفقدِ في عينيها، ما كنتَ لتحتمل العيشَ يوما واحدا تحت وطأةِ شعورِك بالتقصيرِ في حمايةِ أخيك؟
 أردتَ أن تعيدَ إليها صغيرَها العريس ولو كان الثمنُ حياتَك.

 لكن أحدا منكما لم يعدْ إليها....

هل أسمعُك تسألني كيف حالُك؟

مازلتُ عالقةً بتلك الفكرةِ الفخّ.
أنتَ تعلمُ كيف يمكن لمحضِ فكرةٍ أن تمتصَ نَسْغَ الحياةِ من كلِّ أنحائك، أن تحيلكَ هيكلا يطوفُ وسْطَ الخرائب.

إني -يا حليفَ الحزنِ المقنّعِ- لا أخرجُ من فخٍّ إلا لأقعَ في مصيدة.

فبعد أن تدرس خرائطَ الواقعِ بدقة، وتتأكد من صيانةِ مركبتِك؛ تنطلقُ واعدا نفسَك برحلة آمنة، لكن كلّ هذا لا يفيدك..

كأن التضاريسَ في الخارجِ مخلوقٌ حيٌّ ينمو ويتشكّل، ويعيدُ زرعَ ألغامِهُ وفخاخِهُ، أنت كذلك تتشكّلُ وتمرُّ بأطوارٍ حتى تكادُ لا تعرفُ نفسَك!

ألهذا اخترتَ الخروجَ من (لعبةِ الواقعِ) إلى (الحياةِ الواقعيّة)؟

كنتَ تعلمُ بكلِّ هذا، ورأيتَه قبل أن أراه، لا تنكرْ ذلك، شحوبُك يشهدُ عليك، وجومُك، انخطافُ روحِك، الوحشةُ التي تستبدُ بك وأنت محاطٌ بجميعِ من أحبّوك... تشهدُ بأنك رأيت!
لكنك اخترتَ أن تغادر َبصمت، دون أن تتركَ وصيّةً لأحد. هل هو دربٌ يتحتّمُ على الإنسانِ أن يمشيَ فيه بلا خرائطَ، بلا دليلٍ، بلا خطواتٍ يتبعُ أثرَها؟

الآن -يا منارَ طريقي- أفهمُ أنه لا يمكنُ العبورُ من عالمِ الفناءِ إلى عالمِ البقاءِ ما لم تذبحْ قرابينَك عند (بوّابةِ المسجد) وقد رآك قلبي تذبحُ تعلّقاتِك كلِّها..

كلُّنا على هذا الطريق.. كلُّنا سنقطعُ حبائلَنا يوما .. ويتسربُ منا نسْغُ الحياةِ ويعلونا الشحوب...

لكنّك أشجعُ منّا؛ قطعتَ تعلّقاتِك بضربةٍ واحدة ..
ونحن نحُلُّ غَزْلَ تعلّقاتِنا خيطا خيطا ..


أنت حين ذبحتَ قرابينَك لم تلتفتْ إلى الوراء.. وأنا أقطف ثمارَ قلبي حبّةً حبّة .. أودعُها في سلالٍ وأقذفُها باليمّ وأبقى أشيّعُها بنظري حتى تذوبَ روحي حسرات ...

شتّان بيني وبينك .. أنتَ مضيتَ مِقداما بلا التفاتٍ ولا تردّد

وأنا .... مازلتُ أتمرّنُ على الموت




رأيتُ أكثرَ بكاء الفاقدين على ما فرّطوا وقصّروا في حقّ الراحلين. فعلام تبكين؟
المعزّيات يصيبهنّ الانهيار من تجلّدكِ، فيقعن عند رجليك باكيات، يستلهمن الصبر منك.
في عقدك الثالث قدّم رحمك استقالته، أغلق بابه وقال لك: يكفينا ثكل عريس واحد. لكنك قصدتِ سلطان طوس ومنحك لمسته الشافية لتحبلي بشهيدك الثاني.
مبكّرا خلا حجرُك من الطفولة، ومازال المهدُ وثيرا والحليبُ ثرّا.
يقولون لك: أولادك أخذتْهم منك الحياة وتفرّقوا عنك في دروبها ومازلتِ موفورة العطاء فلم لا تخرجين للعمل؟ للتطوّع، للترفيه؟ 
تجيبين: لعلّ أولادي يعودون في أيّ وقت ولا يجدوني! 
فأي تقصير يوجع ضميرك؟ أنت التي كنت تقشّرين الثمرة وتقسمينها نصفين وتخرجين بذورها قبل أن تلقميها صغيرك، الثمرة التي لم تكن كمثرى ولا خوخ، بل حبّة عنب، فأيّ تفريط تبكين؟

١١ شعبان ١٤٤٢