الاثنين، 19 فبراير 2018

جبنة بيضاء


الفروق البيولوجية لم تشكّل لنا أيّ عائق، لم أجد بأسا في تقليد طريقة تنقّلك مشيا، ولا أنت هزّتْ ثقتَك بنفسك نظراتُ الاتّهامِ والشكِّ التي يرشقنا بها الجيران، كنّا صديقين متوافقين.
في ذلك اليوم عرضتُ عليك أن نخرج معا للغداء، لكنّك قلتَ بأنّكَ لا تشعر بالجوع. ولأنّك لم ترافقني تنقّلتُ بحرّيّة أكبر، وحلّقتُ بعيدا إلى حيث يتنزّه البشر، فهناك يتوفّر الطعام دائما
وقعتْ عيناي على قطعة جبن بيضاء وطريّة وطازجة، التقطتُها وحلّقتُ راجعا إلى مسكني.

لمَ لمْ ترافقني ونبحث معا عن الطعام؟ لمَ أخبرتَني بأنّك لستَ جائعا؟ لمَ لمْ تعترف لي بأنّ قطعة الجبن أغرتْكَ وأثارتْ جوعك؟ الجوع ليس عارا لنخفيه، إنّه حاجة بيولوجية.

أنا مازلتُ أقدّرك يا صديقي، كان بإمكانك وأنتَ تفوقني حجما وقوّة أن تثِبَ عليّ وتثبّتَ جناحيّ بإحدى قوائمك، وتثبّتَ رجلَيّ بالأخرى، وتدوس على منقاري بقائمتك الثالثة وتنتزع منّي قطعة الجبن عنوة. لكنَك لم تستعمل العنف معي يوما. ولم تستعمل معي حيلك الفائقة. كان يمكنك مثلا وأنت الذي لا تبارى في فنون الحيل أن تقول لي: غنّ لي يا صديقي بصوتك العذب! وأنا الذي لم يُطْرِ أحدٌ صوتي طول حياتي سأفرح وأشرع في النعيق، حينها ستسقط قطعة الجبن من منقاري فتأكلها.

بعد ذلك يمكنك أن تحتال عليّ فتدّعي بأنّك لم تعرف بأنّ قطعة الجبن الواقعة على الأرض تخصّني. أو تقولَ بأنّك ظننتَ بأنّني أوقعتُها عمدا لأنّي لا أرغب بأكلها، أو لأنّ طعمها لم يعجبني. لكنّك صديق جيد، ولم تستعمل ضدّي سلاحك الأقوى والأخطر: الحيلة!

بقيتَ مختبئا حيث لا أراك، ولمّا سقطتْ قطعة الجبن على حين غفلة منّي خطوتَ بخفّة دون أن ترفع رأسك، والتقطتَها ومضيتَ بهدوء كأنّك لا تراني، كأنّك لم تمضِ في مخبئكَ ساعة كاملة وأنتَ تتلمّظ، وتنتظر اللحظة التي تعلم جيّدا أنّها ستحين.

أنتَ صديقي الذكيّ الذي عاشرني طويلا وعرف عاداتي وعيوبي ونقاط ضعفي، كنتَ تعرف بأنّني أعاني من رعشة تنتاب أطرافي، وكنتَ متأكّدا بأنّني سأُسقط طعامي كعادتي وأعود لالتقاطه.


الاثنين- 3/6/1439هـ 
19/2/ 2018م 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق